بقلم :تمارا الرفاعي
أحتفظ بكل الدفاتر التى ملأتها بملاحظات تتعلق بالعمل على مدى السنوات العشرين الأخيرة. أنقل الدفاتر معى من مكان إلى مكان وأعيد رصها أحيانا حسب تسلسل التاريخ، أحيانا حسب تدرج ألوان الأغلفة وأحيانا حسب مواقع العمل التى كنت فيها حين كتبت الملاحظات. يظن زوجى أننى أحتفظ بالدفاتر للإبقاء على الأحداث كما عشتها وكما أثرت على عملى فى منظمات حقوقية وإنسانية. ربما يظن زوجى أننى أجمع الأحداث بهدف نشرها يوما ما فى كتاب من نوع «شاهد على الأحداث».
***
ما لا يعرفه زوجى هو أننى فعلا أحتفظ بالدفاتر بهدف الاحتفاظ بتفاصيل دقيقة جدا، لكنها لا تتعلق لا بالأحداث من حولى، رغم زخمها، ولا بالاستجابة الحقوقية والإنسانية لها. أحتفظ بالدفاتر لأننى أملأ صفحاتها الأخيرة بتفاصيل تخطر على بالى أثناء العمل فأكتبها على طرف الصفحات الأخيرة، أى عكس اتجاه الورق وفتح الدفتر، معظمها تتعلق بالأصدقاء وبالطعام.
***
صفحات دفاترى الأخيرة سوف تحكى قصصا لا تنتهى عن لقاءات حدثت فى بيوت كثيرة عشت فيها ودعوت عليها أصدقاء للغداء أو العشاء. صفحات دفاترى الأخيرة مقسمة إلى أعمدة أضع فيها أسماء المدعوين وتاريخ اللقاء، وأكتب مقابلهم فى العامود الثانى ما سأطبخه. تتخلل هذه الأعمدة أو اللوائح وصفات مكتوبة بسرعة، أعرف أننى نسختها عبر اتصالات بين دمشق؛ حيث تعيش أمى ومدن كثيرة استقبلتنى على مدى السنوات. إن كان فعلا ثمة من ينصت إلى المكالمات، فقد استفاد كثيرا من وصفات أمى بين دمشق والخرطوم، دمشق ونيويورك، دمشق والقاهرة، بل حتى دمشق وكاتماندو، تلك المدينة البعيدة الوديعة حيث لم يعرف أى شخص قابلته فيها أين تقع سوريا! كان ذلك قبل أن يحتل بلدى الشاشات والصحف الأولى بسبب الحرب.
***
أقلب الصفحات الأخيرة فى دفاتر سنوات من الترحال، مذهل إعادة اكتشاف علاقة الفرد بالمكان من حوله وبالناس وبالمطبخ. يبدو لى أننى ترددت بعض الشىء فى بداية ترحالى من الدخول بقوة فى الوصفات السورية المعقدة رغم أننى نوعت الأصناف، ثم بدأت تدريجيا بنسخ وصفات سورية من مدن مختلفة، مع التركيز على دمشق وحلب، وهما، أى المطبخين، فى تنافس دائم على المركز الأول. هكذا إذا، وتزامنا مع بداية الربيع العربى، والذى بدأت خلاله علاقتى بالأمومة فى بلاد لا تتحدث العربية، طالب مطبخى بهويته بشكل أوضح، وبدأت المناسبات الاجتماعية التى كتبت لائحات المدعويين إليها، بدأت تعكس التطورات فى المنطقة العربية فصارت مصر وتونس وسوريا ممثلة بقوة فى بيتنا، والمطبخ كشف عن أصوله دون مواربة. بدأت صفحاتى تعكس أيضا تمسكا متزايدا منى بكل ما هو سورى.
***
أقلب الدفاتر من الطرفين، من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار فأرى تسارع الأحداث وتسارع اللقاءات وتطور علاقتى بالمطبخ السورى، أرى وصفات أمى وأكاد أن أسمع صوتها تعدد المكونات بينما صوت أبى يصلنى أيضا ليسألنى إن كنت سمعت عن تطور بعينه نقله أحد مراسلى الصحف الدولية. تنهره أمى، فما علاقة الاحتجاجات فى مدينة بعيدة بوصفة محددة ومعقدة تحاول هى أن تشرحها لى من دمشق إلى نيو يورك؟ منذ ذلك اليوم وأنا أربط بين طبق الكبة السماقية وبين حدث أكون قد كتبت عن تفاصيله فى قسم الدفتر المخصص للعمل، بينما تحتل الوصفة ربع صفحة من الطرف الآخر فى الدفتر.
***
أسماء أشخاص فى مجموعات، مع لائحة طعام تزداد تعقيدا مع تعقيد وضع المنطقة، ووصفات تزداد تفاصيلا مع تفاصيل الأحداث كما يرسلها لى أبى فى الصباح قبل أن أسمع الأخبار. عندى فى دفاترى ترابط أصبح اليوم شديد الوضوح حين أقلب الصفحات: منطقة تتعقد، عائلتى تكبر وتنتقل من بلد إلى بلد، وصفات أمى تدخل على الأحداث، أسماء لأكلات سورية يضحك منها أولادى إنما يكررونها اليوم بشكل طبيعى، أصدقاء فى مجموعات ربما التقطت أحيانا صورا لها وكثيرا لم أصورها.
***
أظن أن الطرف الآخر من دفاترى أكثر أهمية من الطرف الأصلى، أظن أننى فى مراجعتى لسنوات من الأصدقاء والمطبخ أستطيع أن أعيد تركيب معظم الأحداث التى عصفت بالعالم دون الرجوع إلى نصف الدفاتر المتعلقة بالعمل. أظن أن من يقلب الدفاتر حين يجدها فى درج بعد رحيلى سوف يحاول حل الأحجية أو الأحجيات الكثيرة التى قد تشكل سردية كاملة عن ما دار حولى فى سنوات نشاطى المهنى والعائلى والاجتماعى.
***
أتمنى على من يجد دفاترى أن يكون مهتما بالشرق الأوسط، حنونا على المشرق تحديدا. أتمنى أن يجد دفاترى شخص يفهم أن فتة المكدوس هى ملكة الفتات، وأن الكبة المشوية من مدينة حمص ويجب أن يدخل فى حشوتها بعض الشحم. أتمنى أن يقدر من يجد دفاترى صعوبة أن ألف ورق العنب ليكون شبيها بما كنت أراه فى الشام فأسخر من حجمه الصغير الذى يكاد أن يذوب فى قضمة. على من يجد دفاترى أن يتخيل بيروت فى أبهى طلاتها، وأن يغمض عينيه على القدس القديمة فيشم رائحتها، وأن يسمع أذان جماعى من الجامع الأموى فى دمشق. أريد أن يعرف من وجد دفاترى أننى من هنا، من منتصف العالم، عالم حملته فى دفاترى حيث تنقلت.