بقلم :تمارا الرفاعي
عشر سنوات أمضاها معظم السوريين في نقاشات حامية لتحديد مواقفهم والتأكيد عليها، هذا إن استطاعوا أن ينفذوا بأرواحهم أصلا. عشر سنوات رمت بالبلد في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية على الإطلاق وجعلت من الصعب حتى تذكر ما كانت عليه الأمور قبل ذلك. هناك ما سبق السنوات العشر الأخيرة وما تلاها.
***
في أسبوع الذكرى العاشرة لانطلاق المظاهرات في سوريا، قررت أن أتذكر سوريا على طريقتي، أتذكر ما أحببت فيها وما أنقله معي حيث أحط مع حقائبي. يستهلك تقشير ونقع قشر النارنج مني ثلاثة أيام حتى أصنع كمية جديدة من المربى قبل انتهاء الموسم. تمتلئ أمسياتي هذا الأسبوع بأصوات شبابية تغني أغاني تقليدية بعضه كنت أعرفه فأدندنه معهم وبعضه لم أكن قد استمعت إليه من قبل إنما اكتشفته في السنوات الأخيرة مع المساحات التي خلقتها شبكات التواصل الاجتماعي لشرائح من السوريين لم يلتقوا بالضرورة من قبل.
***
أنا أرمم قلبي بالموسيقى والنكهات، اعتمدتها ضماداتي الخاصة، ففي يوم رحيل صديق عزيز علي وعلى الكثيرين، هاتفتني صديقة لتسأل كيف تلقيت الخبر فأجبتها أنني أغرق في رائحة البرتقال عمدا بعد أن قررت أنني بحاجة لأن أشمها علها تخفف من المصاب.
***
قد أصف أحيانا شعوري بالحنين أو بالنوستالجيا، وكأنني أحتفظ بنثرات من حيوات سابقة أجردها عمدا من أي سياق سياسي وأغلفها بإحكام حتى لا تتعفن. أنا لا أقلل من السياق السياسي ولا أتجاهله، إنما أقرر أنني، ولو لدقائق معدودة، سوف أضغط كمية وافرة من الذكريات السعيدة في إناء من الزجاج كمن يعد أواني الزيتون كل سنة. ها أنا أرص إناء بعد الآخر على رفوف في غرفة صغيرة أمنع عائلتي من الدخول إليها. أختار أن أطلعهم على بعض ما فيها أحيانا، فأحكي قصة حمام السوق مثلا لأولادي وهم لا يفهمون أن ثمة مكان للقاءات والسمر والقصص على البخار ورائحة صابون الغار. قد لا تهزهم، أي أولادي، رائحة الغار أصلا، فهم لا يعيشون كما عشت أنا في حضن جدة لم تفكر قط باستبدال الغار بصابونة حديثة برائحة الزهور.
***
من المجحف وصف الحنين بالنوستالجيا، وهي كلمة صارت تحمل تهكما وكأنه اتهام بالسذاجة. أظن أن لكل طريقته بترميم قصة يريد أن يحتفظ بها، قد تطغى عليها التفاصيل الحسية كالروائح والمذاقات، كما هو الحال في محاولتي للترميم، أو قد تطغى القسوة والمشاهد العنيفة التي يصعب تلوينها برائحة النارنج مهما حاولنا. أقول أن في جعبتي على الأقل ذاكرة بصرية وحسية عن مكان أستطيع أن أتلاعبه وأعيد تشكيله لأفرده أمام آخرين لم يزوروا سوريا قبل الدمار. أحكي عن الأسواق والحرير والحرفيات ثم أشعر أنني مثل تجار الشنطة أفتحها لأبيع الحكايات.
***
هناك شنطة أخرى فيها كوابيس لا أفتحها إذ لا أريد أن تتدخل في سردية قررت أن أركز عليها هذا الأسبوع، فيما يركز الكثيرون على جوانب أخرى مما عاشه السوريون في السنوات العشر الأخيرة. أقرأ النقاشات على شبكات التواصل الاجتماعي ولا أستغرب من قسوتها، أكاد أن أجزم أن حدة النقاشات توازي عنف ما حدث هناك، وسط شعب كان أغلبه يمشي في الظل خوفا من أن تناله صفعة، وحين رفع رأسه متسائلا إلى متى انهارت فوق رأسه السماء.
***
هذا الأسبوع هو أسبوع حارة قديمة عادية، سكن بيوتها جيران تتشابه حياتهم اليومية، ذهب أطفالهم إلى مدارس الحي، وزرعت نساؤهم ورودا ملونة في الربيع لتزيين الشرف أو الحدائق الداخلية. لا ترف ولا تصنع، حركات تلقائية تحضر الفطور وترش الزعتر ثم تقشر البصل وتقليه في الزيت حتى يتقرمش، أصوات أسمعها من خلال الجدران "يا كريم، يا أمل، خلصتوا الوظائف؟" (أي الواجبات المدرسية). أم تفتح باب بالبيت بعد أن رمت على رأسها طرحة الصلاة لأنها كانت أقرب إليها من المنديل، جارة لا تغطي شعرها سحبت كرسيا صغيرا بلا ظهر وجلست أمام منزلها تراقب الأحداث.
***
ماذا كانت الأحداث؟ يعود الجار إلى بيته حاملا كيسا فيه خضراوات، يبدو أنهم سيطبخون المحاشي غدا وعلى الأغلب سيرسلون طبقا لضيافة الجارة التي رأت الكيس "أهلين جارنا يعطيك العافية". الشابة تعود من عملها في إحدى المدارس القريبة، ما أجملها، يقال أن لغتها الفرنسية ممتازة حتى أنها قد تفوز بمنحة لدراسة الماجستير في الخارج.
***
أشعر أن شيئا ينقص في المشهد، ثم أشم رائحة القهوة العربية! أعترف أنني لست من محتسيها إلا في المناسبات حين تشربها الأخريات فأنضم إليهن. إلا أنني في هذا الأسبوع أقف في مطبخي وحدي لأغلي لنفسي قهوة تملأ رائحتها المكان والقلب. في ساعة محددة من بعد ظهر كل يوم، تملأ رائحة القهوة مداخل البيوت وقد تصل إلى الحارة. يجب وضع الإناء التي صنعت فيه القهوة مع فنجانين على صينية، ويجب تغطية الإناء بطبق صغير يرفع لصب فنجان جديد ثم يعاد للحفاظ على حرارة القهوة.
***
أحمل الصينية خاصتي مع فنجاني الوحيد وأجلس وسط رائحة البرتقال في المطبخ. هنا مخزوني الكامل من الحنين أفرشه أمامي في أسبوع ذكرى السنوات العشر التي قلبت حياة السوريين.