بقلم - تمارا الرفاعي
أغنية فيلم «يوم من عمرى» الشهيرة لخصت كل ما أطمح إليه فى الحياة من اليوم فصاعدا. أدندن الأغنية فى الصباح وأنا أعد القهوة، وأعود إلى اللحن خلال النهار حين أفقد صبرى أمام مسألة معقدة يجب أن أحلها أثناء عملى، ثم أردد الكلمات وأنا أتحرك فى البيت فى المساء وابنتى تسأل ما هذه الأغنية. ترتبط الأغنية فى ذهنى بمكان أدعى أننى أعرفه، أى القاهرة، لكنى لم أعرفه كما كان فى الفيلم.
• • •
أظن أننى، ككثيرين من أصدقائى فى القاهرة، أعيش علاقة مزدوجة مع المدينة: أحبها على أثر أفلام كفيلم «يوم من عمرى» وأتضايق منها كما أصبحت اليوم. فى السنوات الثلاث الأخيرة منذ رحيلى عن مصر، أتابع ما يكتبه سكان القاهرة على شبكات التواصل الاجتماعى من شكاوى تجبر الكثير منهم على قرار العيش خارج وسط المدينة فى مجمعات سكنية لا شك أنها مريحة إنما هى بعيدة تماما عن روح القاهرة وإيقاعها ووجوهها وقصصها.
• • •
ما علينا، مع البعد عن مصر صارت أفلام عبدالحليم حافظ وأغانيه خلفية لشوقى لمدينة لم تعد معالمها واضحة إنما أشتاق طوال الوقت لروحها. فى حديث مع صديقة تعيش فى المهجر سألتها عن ارتباط أولادها ببلدهم الأصلى فقالت إنها تريدهم أن يتعلقوا بالبلد ويشعروا أنهم ينتمون إليه بالأساس فاختارت منطقة جميلة قرب البحر وصارت تعود إليها مع أولادها حين تستطيع. استغربت أنها لم تعد إلى القاهرة فقالت إنها لن تتمكن من إقناع أطفالها أن يحبوا العاصمة بزحامها وتلوثها واهتراء شوارعها ومبانيها، وأنهم، أى أولادها، لم يعيشوا فى مصر قط لذا فلا ارتباط فى قلوبهم بشارع أو بائع أو مكتبة يعودون إليها وهى فضلت أن تجد منطقة على البحر يحبها الأولاد دون سؤال فتزرع فيهم حاجة للعودة، على أن تحاول إجبارهم على حب مدينة لا يربطهم بها شىء سوى قصص من سبقهم عن أمور لا يجدونها بأنفسهم بين ثناياها حتى لو بحثوا.
• • •
نبهتنى صديقة أخرى منذ مدة أن علاقة الكثيرين منا، أى أولاد الجيل الذى أنتمى إليه، علاقتنا بالمدن تتأرجح بين النوستالجيا والغضب، نحن أبناء جيل ما بعد الأحلام بالنصر ومواجهو الهزيمة، أجيال الحلم بالتغيير ثم الاكتفاء بقبول عدمه. أنا فعلا فى تناقض مستمر بين حب نابع عن تصور بنيته حول أفلام بالأبيض والأسود وبين ضيق ممن هم ما زالوا عالقين فى أغانى عبدالحليم. هل هذا غريب؟ بمعنى أننى أحب المدينة على أثر هذه الأفلام ولكنى أنزعج ممن لم يروا أن المدينة لم تعد ذلك الفيلم أبدا.
• • •
فى الأغنية تلخيص بسيط لما أريده: خفة الروح، مرح برىء، قصص الحب بنسخة لطيفة، بعض الجد وقت الدراسة والعمل يأتى بنتائج معقولة ومتوقعة: من يدرس يحصل على عمل ومن يعمل يحصد نتيجة جهوده، وكل ذلك فى مدينة توفر هذا النوع من الفرص ومن المرح. لكن أين هى هذه المدينة؟ هى مدينة متخيلة وهى نفسها المدينة التى أريد أن يتعلق بها أولادى حتى لو لم نعد نعيش فيها. إذ كيف يكبرون دون مربط خيل، دون مكان أريدهم أن يصفوه بأنه مكانهم، رغم أنهم محظوظون بالنسبة لأولاد جيلهم بأنهم يتنقلون فى البلاد والمدارس والتجارب.
• • •
تعج صفحات التواصل الاجتماعى بمجموعات تكونت على أساس الانتماء إلى بلد أو مدينة أو حتى حى، يعود أعضاء المجموعة إلى أقوال وطبخات وأمثال وشخصيات يعرفونها وشكلت على الأقل جزءا من ذاكرتهم الجماعية. هل ننسف هذه الذاكرة تماما وندعى أنها لم تعد مهمة؟ يفعل البعض ذلك فأنا أتابع أيضا صفحات للسخرية من ياسمين دمشق وكشرى التحرير وغيرها مما تفتقده المجموعات الأولى، مجموعات النوستالجيا.
• • •
أنا عن نفسى متصالحة مع الشجن والحنين إلى مواقف وليس بالضرورة إلى مكان، أى حنين إلى الانتماء إلى مجموعة ربما لم أتفق معها بكل شىء فى حينها ولا أدعى اليوم أننى كنت أتفق معها، إنما لا يمكن أن أمحو تماما ملامح تشكلت من خلال امتزاج بعض منى بما حولى وكأننى معادلة كيميائية! قد أرفض اليوم، وبأثر رجعى حين أعيد التفكير بالماضى، قد أرفض طريقة حياة أو عادات كنت جزءا منها فى الماضى لكنى أعترف بآثارها على وتبقى معالمها واضحة.
• • •
يدعى زوجى أن تعلقى بفكرة «العودة» بات قديما وأن أجيال اليوم وانفتاحها على العالم حتى من مكان مولدها ودون تنقل يناقض مفهوم «الوطن» أو مكانا بعينه يبقى مرجعا للفرد. يقول زوجى إن مع موجات الهجرة والترحال وحلم شباب بلادنا بالرحيل لم يعد هناك مجال لرمى مرساة فى مكان بعينه ووصف المكان على أنه مكان العودة الدائم.
• • •
ها أنا إذا أحاول أن أحشر أولادى فى المساحة الضيقة التى تربطنى بالمدن التى أحب: تلك المساحة الخانقة بين شجن مبنى على أفلام عبدالحليم وغضب من واقع يبرهن أن الأفلام لم تكن يوما حقيقة المدينة. أريدهم أن يدندنوا «ضحك ولعب وجد وحب» وأن يروا عبدالحليم فى وجوه يصادفونها فى الشارع. أظن أنه من الصعب أن أريهم قاهرة عبدالحليم فهم ما بعد جيل «صلة الوصل» أى جيلى. لكنى سأستمر بفرض زيارات للقاهرة وأستمر بتسمية بيتنا هناك «البيت».