بقلم - تمارا الرفاعي
لا يكتمل موسم شهر رمضان، على الأقل بالنسبة لى، دون نقاش شبه يومى مع أصدقائى المتابعين للمسلسلات التلفزيونية بأبطالها وتطور حبكاتها الدرامية وأزياء ومكياج بطلاتها ونفسيات شخصياتها. فرغم تراجع دور التلفزيون والمساحة التى يحتلها فى حياتى لصالح أدوات التواصل الاجتماعى التى تسمح بتلقى الأخبار والتعليق عليها بشكل أسرع وأكثر تفاعلية، إلا أننى فى شهر رمضان أعود إلى الصندوق السحرى الذى تحول أصلا من صندوق إلى شاشة رقيقة، ففقد الكثير من حنية الجدة مكتظة الجسد واكتسب مكانها قسوة زوجة الأب الشريرة بعودها الرفيع. ما علينا، أنا أهرع كل مساء إلى الشاشة وسط نظرات أطفالى المندهشين من تخصيصى وقتا يوميا يكاد يكون مقدسا لمتابعة هذا النوع من الدراما، ثم تخصيصى وقتا إضافيا لمناقشة الأحداث وتطوراتها مع أصدقائى ممن يعيرون الموضوع أيضا أهمية موسمية كما أفعل أنا. وكما كل عام، ينقسم متابعو المسلسلات إلى فرق تتابع كل منها مسلسلا وتفضله على غيره، فمع زخم إنتاج السنوات الأخيرة، لم يعد يجتمع مشاهدو العالم العربى حول مسلسل واحد كما فعلوا مع «الشهد والدموع» أو «ليالى الحلمية» منذ ما يبدو لى الآن أنها عقود مضت.
***
لا يكتمل الموسم أيضا دون نوستالجيا رمضان كما كان، أو كما يصفه الآن من عاش عصورا سابقة. هناك شىء ساحر فى محاولة استرجاع أزمنة مضت وتصويرها على أنها كانت قطعا أجمل وأكثر دفئا وذات معنى. فالعلاقات الإنسانية كانت أوثق وأصدق، والطعام كان أطيب والجمال أعذب والكذب أضيق والفساد انتشاره أقل والأخلاق أحمد وحتى الجو كان أنقى. على الأقل هكذا نتغنى بها نحن المنغمسون فى نوستالجيا الزمن الجميل.
***
الغريب فى الأمر أن إحدى بطلات فيلم قديم قالت أثناء تنظيف بيتها (فى الفيلم) إنها تحرص على قماش العفش إذ إنها اشترته فى زمن كانت الأشياء فيه أجود والتجار أكثر أمانة فى بيع ما لديهم من بضاعة. استوقفتنى الجملة التى خرجت من فم فنانة فى فيلم باللونين الأسود والأبيض، ففى نظرى عصر هذه الفنانة فى منتصف القرن الماضى هو ما يصفه أولاد جيلى وجيل والدى أنه العصر الذهبى وعصر الأخلاق والجودة، وها هى سيدة من ذلك العصر تصف من سبقها بأنه عصر الجودة. ها هو إذا كل جيل ينظر إلى ما سبقه على أنه كان أقل سوءا.
***
ما لم يتغير كثيرا بنظرى هو اعتماد معظم الدراما التلفزيونية الخاصة بشهر رمضان على الطابع الاجتماعى، أى أن الخط الدرامى غالبا ما يكون حول العلاقات الإنسانية وقصص الحب وما ينتج عنها من مواقف مختلفة، سواء تم معالجة ذلك من ناحية دراماتيكية أم كوميدية. لذا فترانا كل سنة متلهفين لمعرفة ما إن كانت البطلة سوف تتزوج فى آخر المسلسل من حبيبها أم إن كانت العلاقة التى بدت مستحيلة خلال خمسة وعشرين يوما سوف تتحول بشدة فى الأيام الأخيرة فنرى وجها آخر للبطل الذى يعترف بانتصار القلب على الظروف.
***
على كل، ها أنا أيضا أسترجع أزمنة مضت وأقارنها بحالنا اليوم فأمارس أيضا نوعا من الحنين إلى حالة لا أظن أن باستطاعتى أن أعيد خلقها، تماما كما لا أستطيع أن أسترجع سلوكيات أصر مع أولاد جيلى والأجيال التى سبقتنى أنها كانت أكثر رقيا بحكم واقع ربما كان أقل مرارة أحاط بها. لا أعرف إن كان باستطاعة من هم من أعمار أولادى وجيلهم أن يفهموا العلاقة التى تكاد تكون عضوية بين الصيام والدراما التلفزيونية ونوستالجيا زمن ولى. ففى عصر اليوتيوب وإمكانية مشاهدة ما يحلو لأحدنا دون ربطه بأى شىء سوى المزاج، قد يكون ارتباط المسلسل بشهر دون غيره قد بدأ بالتلاشى. نوستالجيا لصورة عائلة ممتدة بكبارها وأطفالها يجلسون حول مائدة وتغطى ضحكاتهم على صوت طرطقة أدوات الطعام. ونوستالجيا عائلة مصطفة أمام شاشة التلفزيون وقت إذاعة المسلسل. ونوستالجيا إجازة صيف كانت أبسط وأكثر متعة.
بصراحة لا أعرف أى جزء من هذه الصور أصبح اليوم من نسيج خيالى، أى أننى أستمده من حكايات من سبقنى، إذ أننى لم أعاصر الشارع كما تصفه أمى ولا عاصرت تجار النحاس والحرير فى الأسواق القديمة كما يصفها لى والدى، رغم أننى أحكى قصصهم لأولادى لا سيما أننى أسعى إلى بناء ذاكرة لأولادى عن سوريا، فهم نصف سوريين. ربما تكون هذه نوستالجيا بالوكالة، وكالة من عاصر فعلا الزمن الجميل فجعلنى أحزن على أننى لم أعشه بنفسى.
***
يبدو لى أن محاولة استرجاع الماضى والتوق إلى أمور حياتية ويومية اتخذت أناقة إضافية بسبب بعدها الزمنى قد يدل على أن أحدنا فى طور الانتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى، وكأننا نجلس على سور بين حقلين. السور الحجرى منخفض وأنا أتربع عليه وأحاول ألا أقع. على يمينى حقل يمتد حتى الأفق، تملؤه الزهور فى يوم ساحر شمسه وألوان فراشاته. أعدد الزهور فأنا أتذكرها من حكايات والدى عن مشابهة له وقصص عن تسلقه لشجرة المشمش وقطفه لثمارها. على يسارى حقل آخر يبدو لى أن ثمة محاولة إلى تحويله إلى شىء آخر، فتربته مقلوبة فى أماكن عديدة، وأرى معدات وأدوات بناء منثورة هنا وهناك حتى أن بعضها مختبئ بين الأشجار. من مكانى على السور، أعيش زمنا جميلا بالوكالة وأبحث عن جمال سوف أحكى عنه بدورى لأولادى. من يعلم إن كانوا هم أيضا سوف يتغنون بزمننا هذا ذات يوم فيرون فيه أجمل الأوقات؟
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع