بقلم - تمارا الرفاعي
ألعب مع أولادى لعبة «الأغانى المفضلة من أغانى فيروز» فنسمع خمس أغانٍ يوميا أطلب منهم أن يصنفوها بحسب إعجابهم بها. أحاول أن أنوع بين القديم والجديد، أى بإضافات لتوزيع زياد الرحبانى الذى تبع توزيعات أقدم. أغير ما بين هدير البوسطة وعيون عليا وبين أم سليمان وزوجها الذى يقطف الخوخ والرمان. أحاول مع طابع موسيقى الجاز رغم أن «السميعة» يرفضونها إذ لا تمثل عالم فيروز بحسب معرفتهم الموسيقية. أضيف أحيانا أغانى مصرية قديمة مثل «قلبى ومفتاحه» الأصلية وأخرى بتوزيع جديد، ثم يسمع أولادى «تلفن عياش» وأسألهم إن كانوا يعرفون من هو عياش فيجيبون بالنفى ولا أسمع فى نبرتهم أى فضول.
• • •
أصر أن يتآلف أولادى مع كلمات ونغمات لا مراجع تربطهم بها. فهم لم يزوروا قط عالما فرضته على خيالى وخيال جيلى مسرحيات فيروز منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضى. لا يعرفون معنى أن يكذب عياش وهو يحلف بدينه ولا يهتمون كثيرا لحالة ليلى التعبانة كما فى الأغنية. أما أنا فترانى أصر على فرض تفاصيل لا تعنيهم إنما تعنينى وترسخ ثقافة مجتمعية أريدهم أن ينشأوا عليها بل وأتوقع أن يرددوا معى كلمات الأغانى إذ أفترض أنهم بطور تكوين ذاكرة بصرية كتلك التى كونتها أنا حتى لو لم أتعرف على شادى الذى اختفى وغنت عنه فيروز.
• • •
البحث عن الهوية عملية مستمرة فيها بعض الترف. أتذكر نقاشات طويلة ومحتدمة بعض الشىء مع صديقة قررت أنها لا تريد أن يتعلم ابنها اللغة العربية بسبب رفضها هى لكثير من جوانب ثقافة بلدها ومجتمعها. كنت أصر (وربما ما زلت) أن أى لغة إضافية هى مكسب للإنسان فكيف تحرم طفلها من اللغة العربية حتى إن اختلفت هى مع مضمون الثقافة المجتمعية؟ كانت تشرح لى أن اللغة ملتصقة بالثقافة أو أحيانا وليدتها لذا فستضطر أن تشرح لابنها جوانب لا تريد أن تخوض فيها من مفاهيم نشأت عليها وقررت أن تتخلى عنها، فصديقتى رأت من الأسهل ألا تدخل فى كل هذه التفاصيل وأن تعطى ابنها خلاصة ما وصلت إليه من مبادئ تريد أن يتبعها، ورأت أن كثيرا منها مكبل باللغة العربية.
• • •
أتفهم ما تقوله فأنا أيضا أعيد النظر بمواقف ورثتها عمن سبقونى ثم تخليت عنها عبر السنوات لصالح مواقف جديدة ولم أجد فى اللغة مفردات جديدة. أتابع لغة الشباب وأرى فعلا محاولات لتوسيع رقعة المفاهيم وخلق مصطلحات تناسب المجتمعات الجديدة. أنا معجبة جدا باللغة التى تتطور لتشمل نقاشات جديدة وتشمل فئة الشباب والشابات الناطقين باللغة العربية. أتساءل إن كانت أغانى فيروز وغيرها ما زالت تعنى هذه الفئة أم أننى وأقرانى مصرون على توريث بعض ما نحبه لأولادنا رغم أنهم ينشأون فى أسوأ فترة تمر على المنطقة.
• • •
نحن فى فترة لم يمت فيها بعد القديم، والجديد ولادته متعسرة. لم أصر إذا أن أفرض مفهوم الضيعة والجبل ونسيم وهواء بلادى على أطفال لم يعيشوا أيا منها ولا علاقة لهم بها؟ أرى الحى الذى عشنا فيه فى القاهرة يتدهور حتى يكاد يختفى وما زلت أشير إليه بزهائه القديم الذى لم يعد واضحا للعين. يرى أولادى الحى بعيون جيل اليوم: حى شديد الفوضى لا أرصفة فيه للمشى، تملأ شوارعه النفايات بدل أن تملأه أوراق الشجر ويطلبون أن أوضح لهم أسرار جماله بعينى. هى أسرار فى مخيلتى وبعض منها فى الذاكرة. أظن أن ما فى ذاكرتى ربما جله مبنى على ما سمعته وليس ما رأيته بنفسى. أو على ما رأيته فى أفلام قديمة حاولت أيضا أن أحبب أولادى فيها لكنهم لم يفهموا معظم ما رأوه فيها وتأففوا من بطء أحداثها وقلة علاقتهم بما قاله ممثلوها.
• • •
هل أستمر فى محاولاتى فى صنع ذاكرة بصرية عند أولادى عن أماكن لم يزوروها وإن زاروها فهى لا تشبه ما أصفه؟ ألم تعطينى أغانى فيروز إطارا لصور ركبتها فيما بعد على الأغانى؟ هل من المبالغ فيه أن أتوقع أن يحب أولادى الحارة والحى والختيار وقصص الجيران وهاتف عياش الذى تلفن فى آخر الأمر، وكلها قصص لم يعيشوها بأنفسهم؟ لماذا أصر على فرض نماذج مجتمعية لا تعنيهم؟ هل فى ذلك محاولة منى أن أساهم باستمرار منظومة أرى أنها اختفت لكنى لا أتقبل رحيلها؟ ها قد سألت ابنى لماذا يعتقد أننى أصر على امتلاكه هو ذاكرة عن حارة وبيت وعائلة ممتدة وبقال لم يرَهُم قط، فيجيبنى ببساطة تناسب عمره وهو عمر ما قبل الفلاتر: لأنك تريدين أن تستمرى من خلالنا.