بقلم: تمارا الرفاعي
فجر جديد يشق طريقه فى الظلام، بصيص نور يخترق السواد، ينبوع ماء عذب يمشى ضد التيار، شعاع مفاجئ يضىء النفق الطويل، أمواج من الأصوات تشق الصمت، تيارات من الأحلام تعود إلى السطح، أهذا هو الأمل حين يولد من جديد؟ أحبس أنفاسى أمام الشاشات، أكتم فرحى بجمال ما أراه، أضغط على حماسى وألملم عواطفى التى بدأت تقفز من كل مسام جسدى فى الأسبوع الأخير.
***
ليست هذه الثورة الأولى ولن تكون الأخيرة، إنما هى ثورة أعادت الشعور بالتنفس، كمن يفتح أخيرا شباكا فى غرفة اكتظ بها مائة شخص لمدة سنوات دون هواء. صور لبنان تماما كمن يفتح شباكا ويطل برأسه على الشارع، على الحارة. يا الله هناك عالم بأسره خارج جدرانى، عالم يترك ويهتف، يطالب ويترقب. أطل برأسى من شباكى ثم أقول للجالسين على أرض الغرفة إن ثمة ألوانا وأصواتا تأتينى من الحارة وكأنها تأتينى من حياة سابقة عشتها. أشرح للجالسين فى الغرفة ما أراه وها أنا أمد جسدى خارج الشباك علنى أتمكن من التقاط تفاصيل أكثر أنقلها لمن معى محشورين فى الغرفة المغلقة.
***
يستمع الجالسون إلى بعض التذمر، لا يصدقون ما أقول، لكنها دقائق ويسمعون أيضا نبض الشارع فتدب فى وجوههم التعابير، كمن يستيقظ فجأة من سبات، أو من غيبوبة. نقف جميعا على الشباك نراقب الحركة فى الشارع، تعود الألوان إلى حياتنا التى بهتت فى السنوات الأخيرة. لكننا لا نتحرك من خلف الشباك، أنا نفسى لا أتحرك رغم فرحى بما أراه. أفضل أن أبقى هنا مكتفية بنقرات من الحماس تدق على جسدى وعلى قلبى لكنها لا تدفعنى بعد إلى العمل.
***
«اللى اتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادى»، مثل مصرى يحذر من أن يحرق أحدنا فمه مرتين ويدعو إلى الحرص الشديد. ها أنا أنفخ فى وعاء بارد خوفا من أن يحرقنى، لقد حرقنى وعاء ملىء بالأمل منذ سنوات وغطست من بعد الحرق فى غيبوبة لا ألوان فيها، لا أريد أن أتوه فى اللون الرمادى من جديد فلا أرمى نفسى مع من أراهم من الشباك.
***
أن تكون عربيا فى السنوات الأخيرة يعنى أن تعيد النظر فى البديهيات. أن تكون عربيا فى منتصف العمر اليوم يعنى أن تجيش طاقة هائلة لاستيعاب خيبتك بعد أن أمضيت النصف الأول من عمرك تحاول استيعاب خيبة من سبقوك. أن تكون عربيا اليوم يعنى أن تكسر القوالب وتحاول أن تتجرد من الكثير مما قيل لك إنه يشكل هويتك، يعنى أن تقبل أن ثمة تماثيل قد تم تحطيمها وأكاذيب قد تم كشفها وأحلام قد تم تدميرها. أن تكون عربيا اليوم يعنى أن تقف على الشباك تراقب حراكا غاية فى الجمال وترتبك، ترتبك بالنسبة إلى دورك وقدرتك على التأثير، ترتبك بالنسبة لمطالبك، ترتبك بالنسبة للأشياء التى تريد فعلا أن تصل إليها.
***
من غير الممكن تجاهل نبض الشارع، ومن غير المنطقى ادعاء معرفة ما يحمله الغد. من يقول إنه يرى فى هذا الشارع أو ذاك أكثر مما أراه من شباكى قد يفتقر إلى الدقة. من غير الدقيق تحميل حراك جديد على قديم سبقه، فلكل حراك جماله ويا خوفى أن يكون لكل حراك كماشة تطبق أسنانها عليه دون رحمة.
***
لكن ها هو قلبى يخفق مع قلب لبنان، بغير قرار منى، أقف على ناصية المنطقة وأتساءل عن غد لطالما حلمت به ولم يأت. هل أنضم للزفة، فأنا كسورية أعتبر بحكم خالة العروس، أليس كذلك؟ أم أراقب من بعيد وأبقى بعض المسافة خشية أن أنجرف خلف مشاعر سوف تطحن ما بقى من أحلامى حين ترتطم بجدار بعلو جدار الصين؟ ها نحن فى منطقة لا تصمت، بركان لا يتوقف، غليان يذكرنى بإناء القهوة الصباحى الذى كانت تحضره أمى قبل أن تجلس هى الأخرى أمام كرسى فى منزلها فى دمشق. يغلى دون توقف حتى تملأ رائحة القهوة المكان كله، تحمله أمى برفق وتتمركز فى مواجهة الشمس. تصب فنجانا تلو الآخر وتراقب ما يحدث.
***
بحبك يا لبنان وبخاف عليك، فقد أحببت من قبلك بلادا أخرى قادت شعوبها الشارع فدهستها قوى لم ترض حتى بالتفاوض. أقف هنا على طرف الحراك كطفلة خجولة ألبسها أهلها ثياب العيد لكنها لا تريد أن تسلم على الضيوف. هى فرحة جدا بالفستان لكنها خجولة لا تتمشى به أمام الناس. تريد أن تعود إلى غرفتها ولعبتها لأنها وقعت فى العيد الماضى أمام الضيوف وما زالت أثر الوقعة على روحها جارحا.
***
أقف بارتباك أمام حلم يحاول ناس أحبهم أن يلتقطوه بعد أن فشلت أنا فى ذلك. أريدهم أن يلتقطوه، وحينها سوف أنضم إليهم وأهنئهم. سوف أشاركهم الحلم من بعيد اليوم، أنا كمن كسر حب قديم قلبه فقررت أن أتحاشى الحب ولو بعض الوقت. بحبك يا لبنان فعلا، وأقف على شباك يطل عليك لأرسل لك قبلة وأتمتم لك بتعويذة أتمنى أن تقيك فتك الكماشة.