توقيت القاهرة المحلي 02:18:11 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قصص خريفية

  مصر اليوم -

قصص خريفية

بقلم : تمارا الرفاعي

خريف المشرق بات خجولا، تماما كما بات المشرق، متأخرا في استيقاظه، متكاسلا في حركته، منكسرا في زهائه المفترض. خريف المشرق كان كخريف الصور الفنية، تحمل سماءه الخير وصوت أم تدعو أطفالها إلى لبس طبقة إضافية تحت ثياب المدرسة. لن تلبس الابنة الفانيلا ولن يأخذ ابنها سترة معه، لكنه تقليد سنوي تصر عليه، يجب أن تعلن عن فصل الخريف في أوائل شهر تشرين الأول فتخرج فانيلا وسترة من الصوف من الخزانة وتضعهما على السرير.

***

أحاول في كل سنة أن أتذكر بأمانة إن كنت فعلا قد عشت خريفا في مرحلة الطفولة كذلك الذي أتخيله، بهوائه البارد وأوراق أشجاره الملونة. هل قفزت في بركة تجمعت فيها ماء أول أمطار الموسم؟ هل جريت إلى البيت حين انفجرت السماء فوق رأسي فشعرت وكأن أحدهم فتح علي صنبور الماء؟ هل لبست طبقة تحت ثياب المدرسة دون أن أعترف لأمي بذلك، إذ أنني كنت أصر أنني لست بحاجة إليها؟ أظن أن الخريف كان فعلا مختلفا منذ عقود، وأظن أنه يحمل شجنا خاصا يضفي على كل الذكريات اللون البرتقالي، لون شمس لم تعد تدفئ الكون إنما أصرت على إنارته فلمعت معها أوراق الشجر قبل أن تتراقص في طريقها من الغصن إلى الأرض. أنها ترقص بدلال رقصة موت سوف ترميها من الأعلى إلى الأسفل. أوليس الخريف كالموت، يخطف الحياة ويرمي بأصحابها أرضا بينما يراقب المشاة تلك الرقصة ويحتارون في شعورهم تجاهها؟

***

تحكي أمي وجدتي من قبلها قصص الخريف أيضا، وتظهر أمامي فتاة تلبس زي المدرسة تخرج من بيت أسقفه عالية وتلتقي بصديقة تمشي معها إلى المدرسة. الجو يحمل وعودا لفتيات يكبرنهما سنا بقصص حب سوف يزرعن بذورها في شهر تشرين، قد لا تظهر وقتها إنما سوف تزهر في الربيع. يحمل الجو أيضا أخبارا عن انتهاء قصص حب أخرى، سوف تختلط دموع أصحابها بقطرات المطر فتغسل العيون استعدادا لطي صفحة القصة وصفحة موسم الصيف بصخبه وضجيجه.

***

خريف العمر: جملة مخيفة. فها هي أشجار كانت تحمل الحياة منذ أسابيع تميل اليوم برأسها فتتغير ألوان الأوراق في رقصتها الأخيرة قبل السقوط. تماما كما هي الحياة: موسم محمل بالقصص والأصوات والأطفال والصخب، موسم الاحتفالات والأعراس وزيارة الأحباء من بلادهم البعيدة، ثم صمت ويسكت الجميع فجأة، يختفي الناس، تبهت الألوان، تسكت الأصوات. وها هي صاحبة المكان ترفع رأسها فترى الغيوم، تحاول أن تقرأ رسالة السماء وأن تتقبل التغيير. تخلط اللونين الأصفر والبرتقالي وترسم أوراق شجر احتفالية تتغلب فيها على اللون الرمادي الذي بدأ بالتسلل إلى شعرها والعالم من حولها، تفرش ألوان الاحتفال من حولها فيتذكر الناس أن تشرين هو أيضا موسم الرمان والجزر واليقطين، ألوانها احتفالية، أليس كذلك؟ أفرط الرمانة في يدي فتتلون أصابعي بالأحمر وأرى نقاطا قرمزية تزين المكان. هكذا يطغى الأحمر على مخاوفي ويشعرني بأن الحياة ملونة في كل الفصول إن بحثنا عن القصص.

***

القصص: طفلة تحاول الحياة أن تسحبها إلى خريف العمر. ابنة تمعن النظر في صور العائلة فتختلط عليها الوجوه لأنها وأمها وسيدات العائلة كلهن متشابهات في الملامح. أم تفرد جناحيها كالدجاجة فوق الكتاكيت، أو الشجرة في موسم الصيف الحار حين تكون أغصانها مكتملة الأوراق فتحمي من تحتها من الشمس. جدة راقبت تحول الأوراق من اللون الأخضر إلى البرتقالي ثم الأصفر، من الطري إلى الجاف من المرن المتماسك إلى المتساقط الهش. قصص الخريف إذا تماما كما شخصياتها، مرت بمواسم كثيرة وها هي اليوم تنظر خلفها خشية أن تنظر إلى الشتاء أمامها. ربما من الأفضل التمرغ في فصل الخريف بدل المضي قدما إلى الصقيع؟

***

الروائح: قشر البرتقال، قرنفل، قرفة ورائحة التربة بعد المطر، حبر وأوراق كتاب ملتصقة أمر بأصابعي بينها حتى أفرقها وأشم رائحة الصمغ. تبدأ رائحة المازوت بالانقضاض على سماء المدينة وحاراتها، تشغل البيوت المدافئ للمرة الأولى فتختفي كل الروائح الأخرى ويكاد السكان أن يختنقوا من رائحة العادم. لكنها أيضا رائحة الخريف.

***

الخريف بداية ونهاية، الشهر التاسع هو نهاية الحمل وأول الحياة، تسقط الأوراق لينبت الجديد مكانها، شهر متقلب كتقلب مزاج يحاول التأقلم مع التغيير، مزاج مر بنصف سنة مثقلة بالهموم تخللها ربيع قصير ظهرت فيه بدايات حياة قبل أن تحرقها الشمس. الخريف ألوان يخلطها الفنان على خشبته فيختار أن يزيد من اللون الأحمر ليعيد إحياء من ذهب، شقائق النعمان التي تظهر بين الأموات فتعود أصواتهم لتلاحق من نجا.

***

حكايات الخريف متقلبة كمزاج متعكر، يغضب صاحبها أحيانا ويحزن بعد ذلك، يحن إلى الماضي فتلين ملامحه ويذرف الدموع فوق رؤوس المارة. يهدئ اللون الأصفر من روع صاحبها بعد أن طغى القرمزي عليها عندما فرط الرمانة في يده. في الخريف حنين وحنية كوجه جدة بات لا يظهر سوى في الحلم، في الدقائق الأخيرة قبل الاستيقاظ. هي قصص حبلى بالماضي، تعود إلى الحياة كل عام في شهري أيلول وتشرين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قصص خريفية قصص خريفية



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 15:30 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025
  مصر اليوم - ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف

GMT 04:47 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

تعرف على أسعار السمك في الأسواق المصرية السبت
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon