بقلم : تمارا الرفاعي
احترت كثيرا وأنا أقف أمام خزانة ملابسى فى محاولة لاختيار الزى المناسب للحدث الذى سوف أحضره. الحدث كبير، وصاحبه قد يكون من أكثر من عرفتهم رقيا فى الذوق وصرامة فى احترام التقاليد الاجتماعية. كيف لا وهو حين يدخل إلى مكان يتوقف الحضور عن الحديث لحظات، ينظرون فى أثنائها إليه ويثنون على أناقته ومظهره؟ شكله أشبه بشكل ممثلين ظهروا فى أدوار أسياد القصور الأرستقراطية فى الأفلام القديمة، حتى كلامه وحركاته تبدو أحيانا وكأنها من عصر آخر. كريم بلا حدود فى صداقاته وضيافته، ودود فى المعشر وفىٌّ فى المحبة. قاس فى حكمه على من لا يتبع ما يراه هو أنه «الأصول»، لكن شبه ابتسامة تهرب من وجهه وهو يعلق على ما يراه «ما بصير»، هى ابتسامة فيها بعض الدهشة وبعض الغيرة ممن قرروا عدم التقيد بما يفرضه العرف الاجتماعى بحسب معاييره.
أقف محتارة أمام ملابسى وأتخيل عشرات المناسبات الاجتماعية التى جمعتنى به وبعائلته، عشاء فى دمشق أو فى مدينة أخرى، حديث لا ينتهى عن السياسة والفن والموسيقى. والأهم من كل ذلك، كلامه الدائم عن مدينته دمشق. هو باشا وحكواتى، كاتم أسرار تجار الأسواق القديمة، فقد ولد فى عائلة امتهنت التجارة، وورث عن جده وعن والده مهنتهما ومكانته فى المدينة القديمة، والتى سرعان ما طورها لتتماشى مع العصر ومع الحياة الحديثة. فى أمسيات دمشق الصيفية حكى لنا عن مصنع عائلته الذى تم تأميمه، وعن موت والده وهو مازال فى الخامسة عشرة من عمره. حكى لنا عن المصنع الذى أعاد تشغيله وإدارته وعن بساتين المشمش المحيطة بالمصنع، التى لا يضاهيها أى مشمش فى العالم كما كان يقول.
كنت أستغرب معرفته بأدق تفاصيل الحياة الدمشقية على اختلاف طبقاتها ودوائرها، فعلى الرغم من أنه كان ينتمى إلى عائلة عريقة فإنه كثيرا ما بدا متعدد الثقافات بحكم اختلاطه الدائم بأصدقاء وشركاء عمل من جنسيات وبلاد أخرى. دمشقى أصيل لم تقتلعه سنوات الحرب والغربة من جذوره حتى وإن أبعدته عنها، فبقى على تواصل مع من عمل معهم ومن ربطته بهم صداقات، وبقى قلبه وبيته فى المهجر مفتوحا لمن أحبه وأحبوه فى دمشق.
لم يكن بسام مدافعا عن حقوق الإنسان بالمعنى الكلاسيكى، إنما كان مدافعا شرسا عن حقوق العمال من حوله. لم يكن أيضا مدافعا كلاسيكيا عن حقوق المرأة، إنما عامل النساء من حوله وكأنهن كلهن أميرات. لم يكن ثوريا بأى شكل، إنما آمن ــ بصدق ــ بضرورة أن ينتمى السوريون إلى بلد يجمعهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. كان بسام خليطا فريدا من صفات يبدو لوهلة أنها لن تجتمع فى شخص واحد لكنها اجتمعت فيه. يتحول فى لحظة غير متوقعة من شخص قد يبدو عليه أنه متعال إلى طفل يستمع مشدوها إلى قصة يرويها أحدهم عن معاناة تعرض لها ونتج عنها بعض الألم. يعود سريعا إلى وضعيته على الكرسى رافعا رأسه ولافا ساقا على ساق ليفكر فيما سمع، يربط الأمور فى عقله ويفتش عن حل سرعان ما سوف يطرحه ويساعد فى تنفيذه.
بسام معلم من معالم دمشق، من لا يعرفه يكون على الأغلب قد سمع عنه. رويت عنه الكثير من القصص، كحال أى شخص يتبوأ مكانة رفيعة فى مجتمع يترقب كل حركة وكل همسة، مجتمع ملىء بالأسرار المكشوفة للكثيرين. قرر الابتعاد عن الشأن السياسى فى الفضاء العام، فاختلف معه البعض وقويت صداقاته مع آخرين، إنما لم يختلف من يعرفونه على تعريفه بعبارة «دمشقى أصيل».
خطف المرض بسام الأسبوع الماضى، فكان رحيله صدمة هائلة وفجيعة كبيرة لمن أحبوه على الرغم من توقعهم إمكانية أن يرحل بسبب حالة الإنهاك سريع التنامى التى أصابت جسده. رحل بسام بعد أن نقل عائلته إلى بلدهم الأوروبى الجديد، البلد الذى تبناهم وتبنوه، والذى بدأ فيه بسام إنشاء مصنع مماثل لمصنعه الذى دمرته الحرب فى ريف دمشق. رحل بعد أن أعلن أنه أصبح الآن مواطنا أوروبيا، وقرر عدم الخوض فى السياسة لا فعلا ولا حتى كلاما. كان كمن رسم جدارا فى ذاكرته ثم قرر أن هناك حياة كانت موجودة وراء الجدار سيحاول أن يتناساها، وحياة أمامه سوف يعيشها، ترك فى الجدار نوافذ كثيرة يطل منها على دمشق التى عرفها وتطل هى عليه، لكنه نظر أمامه مقررا ألا يشغله ما كان وراء الجدار. لن يحصى ما فقد ولن يعدد من هجره من الأصدقاء أو من تنكر له، سيحاول ــ ما أمكن ــ ألا يتابع أخبار سوريا كما سيحاول ــ ما أمكن ــ ألا يندم على رحيله.
لكن مدينته أبت أن تتركه، دمشق الحاضرة المهيمنة على ذكرياته وعلى ألمه انتشرت فى جسده مرضا وأكلته بسرعة. غوطة دمشق ــ حيث كان يقطف المشمش ــ رسمت فى قلبه جروحا لم تلتئم على الرغم من النجاح. نهر بردى الذى كان يمر قرب منزله لم يستطع بسام أن يخفيه فى نهر الدانوب الذى يمر تحت شرفة بيته الجديد فى مدينته الجديدة. رحل بسام آخذا معه قطعة من دمشق لترافقه فى رحلته الأبدية، ولن تعود هى الأخرى.
أختار طقما لونه أسود وتصميمه بسيط وكلاسيكى وأضع حول عنقى وشاحا لونه برتقالى، اللون الذى يذكرنى ببسام وبمشمش الغوطة والعلب التى رص بسام فيها أفخر أنواع الشوكولاته التى أنتجها مصنعه فى دمشق ودمغ عليها اسم غراوى العريق منذ أكثر من قرنين.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع