توقيت القاهرة المحلي 11:01:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رحلت قطعة من دمشق

  مصر اليوم -

رحلت قطعة من دمشق

بقلم : تمارا الرفاعي

 احترت كثيرا وأنا أقف أمام خزانة ملابسى فى محاولة لاختيار الزى المناسب للحدث الذى سوف أحضره. الحدث كبير، وصاحبه قد يكون من أكثر من عرفتهم رقيا فى الذوق وصرامة فى احترام التقاليد الاجتماعية. كيف لا وهو حين يدخل إلى مكان يتوقف الحضور عن الحديث لحظات، ينظرون فى أثنائها إليه ويثنون على أناقته ومظهره؟ شكله أشبه بشكل ممثلين ظهروا فى أدوار أسياد القصور الأرستقراطية فى الأفلام القديمة، حتى كلامه وحركاته تبدو أحيانا وكأنها من عصر آخر. كريم بلا حدود فى صداقاته وضيافته، ودود فى المعشر وفىٌّ فى المحبة. قاس فى حكمه على من لا يتبع ما يراه هو أنه «الأصول»، لكن شبه ابتسامة تهرب من وجهه وهو يعلق على ما يراه «ما بصير»، هى ابتسامة فيها بعض الدهشة وبعض الغيرة ممن قرروا عدم التقيد بما يفرضه العرف الاجتماعى بحسب معاييره.

أقف محتارة أمام ملابسى وأتخيل عشرات المناسبات الاجتماعية التى جمعتنى به وبعائلته، عشاء فى دمشق أو فى مدينة أخرى، حديث لا ينتهى عن السياسة والفن والموسيقى. والأهم من كل ذلك، كلامه الدائم عن مدينته دمشق. هو باشا وحكواتى، كاتم أسرار تجار الأسواق القديمة، فقد ولد فى عائلة امتهنت التجارة، وورث عن جده وعن والده مهنتهما ومكانته فى المدينة القديمة، والتى سرعان ما طورها لتتماشى مع العصر ومع الحياة الحديثة. فى أمسيات دمشق الصيفية حكى لنا عن مصنع عائلته الذى تم تأميمه، وعن موت والده وهو مازال فى الخامسة عشرة من عمره. حكى لنا عن المصنع الذى أعاد تشغيله وإدارته وعن بساتين المشمش المحيطة بالمصنع، التى لا يضاهيها أى مشمش فى العالم كما كان يقول.
كنت أستغرب معرفته بأدق تفاصيل الحياة الدمشقية على اختلاف طبقاتها ودوائرها، فعلى الرغم من أنه كان ينتمى إلى عائلة عريقة فإنه كثيرا ما بدا متعدد الثقافات بحكم اختلاطه الدائم بأصدقاء وشركاء عمل من جنسيات وبلاد أخرى. دمشقى أصيل لم تقتلعه سنوات الحرب والغربة من جذوره حتى وإن أبعدته عنها، فبقى على تواصل مع من عمل معهم ومن ربطته بهم صداقات، وبقى قلبه وبيته فى المهجر مفتوحا لمن أحبه وأحبوه فى دمشق.

لم يكن بسام مدافعا عن حقوق الإنسان بالمعنى الكلاسيكى، إنما كان مدافعا شرسا عن حقوق العمال من حوله. لم يكن أيضا مدافعا كلاسيكيا عن حقوق المرأة، إنما عامل النساء من حوله وكأنهن كلهن أميرات. لم يكن ثوريا بأى شكل، إنما آمن ــ بصدق ــ بضرورة أن ينتمى السوريون إلى بلد يجمعهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. كان بسام خليطا فريدا من صفات يبدو لوهلة أنها لن تجتمع فى شخص واحد لكنها اجتمعت فيه. يتحول فى لحظة غير متوقعة من شخص قد يبدو عليه أنه متعال إلى طفل يستمع مشدوها إلى قصة يرويها أحدهم عن معاناة تعرض لها ونتج عنها بعض الألم. يعود سريعا إلى وضعيته على الكرسى رافعا رأسه ولافا ساقا على ساق ليفكر فيما سمع، يربط الأمور فى عقله ويفتش عن حل سرعان ما سوف يطرحه ويساعد فى تنفيذه.
بسام معلم من معالم دمشق، من لا يعرفه يكون على الأغلب قد سمع عنه. رويت عنه الكثير من القصص، كحال أى شخص يتبوأ مكانة رفيعة فى مجتمع يترقب كل حركة وكل همسة، مجتمع ملىء بالأسرار المكشوفة للكثيرين. قرر الابتعاد عن الشأن السياسى فى الفضاء العام، فاختلف معه البعض وقويت صداقاته مع آخرين، إنما لم يختلف من يعرفونه على تعريفه بعبارة «دمشقى أصيل».

خطف المرض بسام الأسبوع الماضى، فكان رحيله صدمة هائلة وفجيعة كبيرة لمن أحبوه على الرغم من توقعهم إمكانية أن يرحل بسبب حالة الإنهاك سريع التنامى التى أصابت جسده. رحل بسام بعد أن نقل عائلته إلى بلدهم الأوروبى الجديد، البلد الذى تبناهم وتبنوه، والذى بدأ فيه بسام إنشاء مصنع مماثل لمصنعه الذى دمرته الحرب فى ريف دمشق. رحل بعد أن أعلن أنه أصبح الآن مواطنا أوروبيا، وقرر عدم الخوض فى السياسة لا فعلا ولا حتى كلاما. كان كمن رسم جدارا فى ذاكرته ثم قرر أن هناك حياة كانت موجودة وراء الجدار سيحاول أن يتناساها، وحياة أمامه سوف يعيشها، ترك فى الجدار نوافذ كثيرة يطل منها على دمشق التى عرفها وتطل هى عليه، لكنه نظر أمامه مقررا ألا يشغله ما كان وراء الجدار. لن يحصى ما فقد ولن يعدد من هجره من الأصدقاء أو من تنكر له، سيحاول ــ ما أمكن ــ ألا يتابع أخبار سوريا كما سيحاول ــ ما أمكن ــ ألا يندم على رحيله.

لكن مدينته أبت أن تتركه، دمشق الحاضرة المهيمنة على ذكرياته وعلى ألمه انتشرت فى جسده مرضا وأكلته بسرعة. غوطة دمشق ــ حيث كان يقطف المشمش ــ رسمت فى قلبه جروحا لم تلتئم على الرغم من النجاح. نهر بردى الذى كان يمر قرب منزله لم يستطع بسام أن يخفيه فى نهر الدانوب الذى يمر تحت شرفة بيته الجديد فى مدينته الجديدة. رحل بسام آخذا معه قطعة من دمشق لترافقه فى رحلته الأبدية، ولن تعود هى الأخرى.
أختار طقما لونه أسود وتصميمه بسيط وكلاسيكى وأضع حول عنقى وشاحا لونه برتقالى، اللون الذى يذكرنى ببسام وبمشمش الغوطة والعلب التى رص بسام فيها أفخر أنواع الشوكولاته التى أنتجها مصنعه فى دمشق ودمغ عليها اسم غراوى العريق منذ أكثر من قرنين.

نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رحلت قطعة من دمشق رحلت قطعة من دمشق



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon