بقلم : تمارا الرفاعي
هناك أغنية فرنسية قديمة تقول «كل شىء على ما يرام يا سيدتى»، تحكى عن سيدة أرستقراطية تتصل بمدير منزلها لتطمئن على أمور القصر أثناء سفرها، فيجيبها المدير أن كل شىء جيد، رغم موت الحصان، تستغرب السيدة وتسأل عن سبب موت الحصان فيجيب المدير أنه مات فى الحريق الذى شب فى الإسطبل فحرق المكان بما فيه، لكن عدا عن ذلك فكل شىء على ما يرام، تسأل السيدة عن سبب الحريق أصلا فيخبرها أن الإسطبل طالته النار التى حرقت القصر، لكن عدا عن ذلك فكل شىء على ما يرام، تسأل السيدة عن حريق القصر فيجيبها مدير المنزل أن الحريق نتج عن سقوط زوجها بعد أن انتحر فوق الشمعدان فوقعت الشموع وأضرمت النار فى غرفة تلو الأخرى، وهو، أى زوجها، قد انتحر بسبب إفلاسه، لكن عدا عن ذلك فكل شىء على ما يرام يا سيدتى.
***
لا أرى قصة أكثر تعبيرا عن حالنا نحن السوريين من قصة سيدة القصر التى يجيبها من يعمل عندها أن الأوضاع بخير رغم المصائب التى يعددها لها، فنظرة سريعة على صفحات التواصل الاجتماعى فى الأيام الأخيرة تؤكد على ما قاله الرجل للسيدة، حيث تكتظ الصفحات بأخبار مروعة عن موت السوريين وتدمير شبه كامل للبلد فوق رءوس سكانه، يتخللها مشاهد عن حفلات لأعياد ميلاد أطفال أو مسابقات موسيقية وبرامج ترفيهية، طبعا الحياة مستمرة وسط الدمار وبالرغم عنه، هذا ما علمتنى إياه سنوات طويلة من العمل فى مجال المساعدات الإنسانية فى بلاد منكوبة، لكنى أعترف أن هناك شيئا سرياليا مع وجود أدوات بصرية، كالصور والأفلام الرقمية التى يتم تداولها حتى من على شاشات الهواتف والتى تضع جنبا إلى جنب الموت والحياة، ومع أحقية من هو على قيد الحياة بأن يتمتع بتفاصيل يومية عادية، إلا أن النظر إلى صور الولائم وهى تصطف بمحاذاة صور الموت والدم فيه شىء لم يعد عقلى قادرا على استيعابه.
***
سهولة تداول الأخبار وسرعة التواصل بين أشخاص يجلسون فى أماكن مختلفة فعلا رائعا، لكنه يصيبنى فى كثير من الأحيان بحالة تشبه فقدان التوازن، فأقول لنفسى أن عالما فيه هذا القدر من الجمال والوفرة لا يمكن أن يكون نفسه من فيه هذا المستوى من العنف والقبح، أعى طبعا سذاجة هذا الطرح، إذ لم يدع أحد قط أن العدل هو معيار الدنيا، بل بالعكس، فمن المؤكد، سواء من خلال الأديان التى تشدد على مفاهيم الصبر أو الاختبار أو المكافآت المؤجلة (فى الجنة مثلا)، أو من خلال الدراسات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية أن تقسيم الخيرات لم يتم بشكل عادل قط، كما لم تنجح عموما الدول فى سياساتها الهادفة إلى إنهاء الفجوة حتى بين مواطنيها، ففى أحسن الأحوال تم وضع سياسات تعمل على إعطاء مستوى أدنى من الحقوق والخدمات بالتساوى للجميع، على أن يسعى العبد بنفسه إذا أراد أكثر.
***
ما نتج عن تطور الأدوات البصرية وتقنيات الاتصال هو وضع جميع من يملك هواتف ذكية على نفس القرب من الأحداث تقريبا، بمعنى أن الفضاء الافتراضى ليس حكرا على مجموعة دون غيرها، وبالتالى فهو مكان يجتمع فيه أشخاص ومجموعات من المستحيل أن يتواجدوا خارج الفضاء الافتراضى فى الحدث ذاته، وهذا تحديدا ما يتحول أمامه عقلى أحيانا إلى صفحة بيضاء إذ لا أستوعب ولا أفك شيفرة هذه الحياة وأنا أرى أشلاء تتبعها وليمة ثم منزل مهدم ثم عرس وفستان أبيض.
***
لطالما سمعت فى طفولتى ممن كانوا يكبروننى سنا عن الحرب الأهلية اللبنانية وعن الدمار الهائل الذى أتى على أحياء بكاملها ومزق المجتمع دون عودة، ما كان يستوقفنى حتى كطفلة وقتها هو الإشارة الدائمة إلى الحياة بين انفجارين أو بين سقوط قذيفتين فى بيروت، لدى أصدقائى اللبنانيين آلاف الحكايات عن تلك الفترات التى كانت تقتطع وقتا من الحرب والموت، فيهرع فيها الناس إلى ملء خزانات بيوتهم بالماء ومطابخهم بالطعام تحسبا لدورة عنف قادمة لا محال، إنما كنت أسمع أيضا عن زيارة للحلاق وزواج سريع «على الضيق» أو حتى ولادة ومباركة بالمولودة، كما روت لى صديقة سويسرية كانت تعمل مع منظمة إغاثية فى أعنف فترات الحرب اللبنانية أنها تذكر بوضوح جلسات السمر على الشرفة فى فترات استراحة المقاتلين، وحفلات أعياد الميلاد الصاخبة فى ليالى كان متفق فيها على التهدئة من أجل التفاوض بين المجموعات.
***
الحياة إذا لا تتوقف بالنسبة لمن يتجنبه شبح الموت، لكن أدوات التواصل تطورت حتى أصبح العالم كالمسرح الرومانى على شكل دائرة كاملة يعطى للمشاهدين رؤية من زوايا مختلفة عم يدور فى وسط الحلبة، ها هو المصارع ينقض على خصمه فينهار الأخير، والجمهور يشاهد الدم ينفر من الوجه فيصفق، أو ينشغل بمحاولة لفهم ما حدث، أو قد يكون البعض مشغولين بشراء الفشار، نعم الفشار، حتى لحظة موت المصارع، إذ كل شىء على ما يرام يا سيدتى، اللهم إلا أن الطفل مات جوعا حين غابت عنه أمه فقد خرجت للبحث عن الطعام إنما قضيت فى انفجار، فى ما عدا ذلك فكل شىء على ما يرام.
نقلا عن الشروق القاهريه