بقلم :تمارا الرفاعي
ترقص بيروت مع الموت كل يوم. تلبس بدلتها المزركشة وتتحدى الشيطان. تتمايل بدلال فوق رءوس الجلادين وتمد لسانها للكارهين. فى لبنان يلازم الموت الحياة فى كل نفس تأخذه بيروت كل صباح، تشرق الشمس وكأنها مفاجأة إذ يتوقع الكثيرون أن غروب الأمس قد أطفأ الشمس. لبنان حيث يتناوب شبح الموت مع صناع الحياة فيقترب الموت تارة ويبتعد، ويقبض بعض الأرواح قبل أن ينهره اللبنانيون فيعود أدراجه متوعدا بزيارة قريبة.
***
يحوم شبح الموت فوق لبنان دون توقف، يراقب بيروت وهى ترقص على إيقاع القصف والحروب ولا يفهم قدرتها على الاستمرار. تغيظه هذه القدرة فيعود فى كل مرة ليمسك برقبتها عله يقتلها. يغضب شبح الموت حين تنزلق بيروت من بين أصابعه وتهرب منه. تلقى عليه نظرة انتصار وتهز كتفيها وهى تضحك كأنها تقول «لن تقتلنى مهما حاولت».
***
لكن ثمن الهرب من الموت كبير، فمع كل هروب تفقد بيروت قطعة منها، ومع ذلك لا تتوقف عن الدلال. مدينة تعطى للحياة معنى وتذكر بأن للبهجة عنوانا، وكذلك للفكر والإبداع وللجمال عنوان اسمه بيروت، وللديانة أيضا عنوان يطرقون بابه يطالبون أهل المدينة بتسديد ديون يدعون أنهم تكبدوا بها. لبنان بلد ديون لم يطلبها إنما فرضها من حوله عليه، ديون من المستحيل تسديدها دون التنازل عن أجزاء من البلد.
***
بيروت تدفع البلاء عن الجميع لكنها تدفع ثمنه فى جسدها الممزق منذ خمسة وأربعين عاما، ثلثهما فى حرب أهلية مدمرة وثلثان فى محاولاتها النهوض من الحرب. بيروت تواجه الشر دون تعويذة، بيروت تفرد يديها من البحر إلى الجبل وتحاول أن تقى أبناءها من الدمار لكنها تفشل. بيروت محط غيرة المدن وحسدها لا عين زرقاء ولا كف فاطمة قادران على مواجهة الشر الذى ينهال عليها دون توقف.
***
بيروت ترقص بين انفجارين، تنفض عن نفسها الأنقاض وتتفقد جسدها فتجد أنه نقص جزءا لكن لا يهم. تفرد بيروت ظهرها رغم كسر النفس، ترفع رأسها رغم كسر الخاطر، وتقول ما زلت هنا، طالما أننى أتنفس فسوف أرقص ضد الموت.
***
لا تستطيع بيروت أن تقشر طبقات الفساد والعفن والكراهية عن نفسها فتلك باتت ملتصقة بجلدها، لا تقوى بيروت على الانفصال عمن يكرهها فهو يرفض أن يعتقها. وها هى تحاول من جديد أن تعتمد على من يحبها. تمد بيروت خدها لاستقبال القبلات رغم أن بعض القبلات قد تكون قبلات الموت وليس الحياة إنما لا تميز بيروت بينهما.
***
نقطة صغيرة من العذوبة والألوان والحريات فى منطقة كاملة لطالما غطاها القمع والكبت، مدينة أنتجت على مدى القرن الماضى أكثر مما أنتجت المنطقة بأسرها بسبب استمرار إيمانها العميق بحرية الفكر والرأى والاعتقاد. محط الأنظار دوما ففى بيروت تبدأ الفكرة قبل أن تطير إلى المدن الأخرى.
***
تنهض بيروت من كل انفجار لكنها فى كل استيقاظ جديد تفقد جزءا منها ونعرف نحن، محبو بيروت أن الجزء الذى ذهب لن يعود وأن ثمة شرير يفرك يديه فرحا بالقطعة التى قضمها منها. الحياة لا تتوقف فى بيروت لكن الموت أيضا لا يتوقف، لذا فبيروت كرقصة التانغو خطوة تأخذها إلى الأمام وخطوة تعيدها بعنف إلى الخلف.
***
لبيروت مكان فى قلب كل من زارها، نفس خاص يسحر من راقص المدينة. الرقص مع بيروت رقص دائم مع الموت، والعلاقة مع بيروت هى تمسك دائم بالحياة. هى ست الدنيا فى عيون من يحبونها لكنهم أيضا تعبوا من حبها فهو أصبح عملا شاقا، حب بيرت عمل شاق. حب بيروت عملية لا تنتهى من التمسك بحبل يتحرك بين جبلين، إن أفلت يقع من فيه ويتحطمون فى الوادى.
***
لبيروت مكان خاص فى قلوب المحبين والكارهين. وكأنما قسم كل زائر للمدينة قطعة من المدينة عند زيارتها ووضعها فى جيبه فصارت خاصته، يحبها كما يشاء أو يقرر أن يفتفتها إن أراد. أمسك بقطعة بيروت خاصتى وأنا أبحث بين أنقاض ذاكرتى عن إيقاع حفظته حين عشت هناك. أتنفس على وقع تنفس بيروت فأنا كغيرى أدعى أننى أيضا أمتلك قطعة منها. ألم يسمى لبنان ب «قطعة من السماء» وألا يعنى ذلك أن لكل محب حق فى امتلاك بعضه؟
***
لا أعرف كم يمكن لبيروت أن تستمر رغم ضربات شبح الموت لها. هى تقوم فى كل مرة فعلا لكنها تفقد جزءا من بريقها رغم محاولاتها أن تغطى على ذلك بحركات أكثر مرحا وألوان أكثر صخبا. إن كان باستطاعة بيروت أن تقوم فى كل مرة فالثمن هو قضمة يأخذها منها شبح الموت ويفرك يديه إذ يعرف أنه فى آخر المطاف سوف يقضم ما تبقى من بيروت ويبصقه. بيروت سوف ترقص مع شبح الموت حتى آخر قضمة. وأنا وغيرى من محبى بيروت، سوف نتمسك بنقطة الأوان الصغيرة التى تبزغ كل صباح وسط الظلام فتسمعنا الموسيقى وتجبرنا على قراءة أفكار جديدة. سوف نستمر فى حب بيروت الشاق.