توقيت القاهرة المحلي 22:53:27 آخر تحديث
  مصر اليوم -

يوم الدين: قسوة أقوى من الحب؟

  مصر اليوم -

يوم الدين قسوة أقوى من الحب

بقلم - تمارا الرفاعي

هناك الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية، وربما فى فنون أخرى، سردية تفترض أن دفء المشاعر الإنسانية وصدق العلاقات قد تطغى، لا سيما لمن هم فى الدرجات الأقل حظا، على قسوة الواقع، فيعوض كرم المشاعر عن بخل الدنيا، وتطبطب صداقة غير متوقعة على كتف أنهكته الحياة. هى مشاعر يحاول هذا النوع من الأفلام والأدب أن يصورها وكأنها زهرة ملونة تشق أكثر الترب جفافا فيكسر رأسها صخرة وتفرد الزهرة ورقاتها البرتقالية والحمراء على لون رمادى يطغى على الشاشة.

***

«يوم الدين» فيلم مصرى حصد جوائز عالمية وعلق عليه المختصون بالنقد السينمائى والفنى. وبما أننى متذوقة للفن فقط ولست ناقدة له، فعلاقتى مع فيلم مثله فيها تقدير للجانب التصويرى والجمالى، لكن فيها أيضا شعور بعدم الارتياح حاولت تجاهله أثناء محاولتى التركيز على الأفكار التى يطرحها. الحياة اليومية لمن هم الأكثر استضعافا فى المجتمع، فقراء موصومون لأسباب مختلفة، بطل الفيلم موصوم بسبب إصابته بالجذام الذى غير كثيرا من شكله حتى تخلت عنه عائلته. يبرع الفيلم فى إظهار صدق فى المشاعر التى تربط بين أشخاص يعيشون فى قاع المجتمع، وسط القمامة التى يظهرها المخرج أصلا كخلفية لعدة مشاهد.

***

أحاول فكفكة شعور بالضيق يسيطر على رغم جمال بعض المشاهد، لا سيما تلك التى تظهر هرما وقرى على ضفاف النيل دون أى ابتذال ودون تنميط مضجر غالبا ما يستخدمه المخرجون حين يصورون مصر. فى هذا النوع من السردية افتراض أن نمو صداقات فى القاع أمر مستغرب، إذ يراد عادة من القارئ أو المشاهد أن يتفاجأ بقدرة من هم مسلوبى أدنى مقومات الحياة على الحب بصدق والعطاء بكرم. الفكرة ليست جديدة فقد طرحها كبار الكتاب والمخرجين من أمثال فيكتور هوجو فى البؤساء ونجيب محفوظ فى معظم كتاباته.

***

مرحى لكتاب ومخرجين يصرون على إظهار جمال الأرواح وسط الموت البطىء، حتى يؤكدوا على أن ما يربط بين الناس هو بمثابة الوريد الذى يمدهم بالقوة فى وجه طوفان من النبذ والقسوة والظلم. جميل، لكنى ما زلت أشعر بالضيق، وكأن المطلوب أن نتقبل واقعا مأساويا وكمية مهولة من الظلم، سواء ظلم الدولة التى لا توفر العلاج والمأوى والماء النظيف فى القرن الحادى والعشرين، أو ظلم المجتمع الذى لم يتم محاسبة أفراده على التمييز ضد من هو مختلف، رغم منظومة قانونية عالمية باتت موضوعة بهدف الحد من العنصرية والتحريض المبنى على التعامل مع الاختلاف على أنه خطر أو أقل استحقاقا للكرامة.

***

أن يصر عمل فنى على إبراز جمال الروح وعمق الصداقة وصدق المحبة بين أشخاص يعيشون وسط القبح والذل شىء يستحق التقدير، لكنى أفشل فى رؤية جمال العلاقة على أنها أقوى من بشاعة الواقع، بل أجد هذه الفكرة خطرة أصلا. علقت سيدة التقيتها فى مناسبة اجتماعية أخيرا على موضوع تعويم الجنيه المصرى بقولها أن أكثر من تطاله تبعات التعويم هم المقتدرين من ذوى العادات الحياتية الثابتة والغالية. «الغلابة بيعرفوا يتصرفوا، أما نحن فنعمل إيه؟» بصراحة هالنى طرحها حتى أننى تخليت عن آداب الحديث أثناء محاولتى أن أفهم كيف قررت السيدة أن على «الغلابة» أن يقسموا الرغيف بينما لن تستطيع هى الاستغناء عن مواد مستوردة تشتريها من السوبر ماركت.

***

هذا هو تماما مصدر الشعور بعدم الارتياح الذى يصيبنى حين أشاهد أفلاما من نوع «يوم الدين»: أن أخرج منه وأنا أناقش النواحى الفنية فى تصوير الصعيد المصرى أو تلقائية أداء بطل الفيلم أو واقعية طرح المخرج لأمور كالخدمات الصحية المتوفرة. ليس ذلك ما أريد أن أناقشه ولا تعنينى الصداقات التى تربط الناس فى قاع المجتمع، إذ أننى من المؤمنين أن الصداقات والمشاعر الإنسانية الحقيقية تربط ناس ببعضهم بعضا فى جميع الطبقات الاجتماعية وذلك إن كان يستحق الاحتفاء به فهو لا يجب أن يعامل وكأنه مفاجأة.

***

ما يعنينى بعد مشاهدة فيلم «يوم الدين» هو أن يكون من المقبول عند السيدة التى التقيتها، وعند الكثيرين من أمثالها، أن هذه الحياة البائسة مكتوبة على «الغلابة» وأن عليهم أن يتكيفوا معها على أساس أنها لن تتغير، وأنهم محظوظون بصداقات تخفف من وطأة الواقع عليهم. أما بالنسبة لمن هم أكثر حظا، فهم يجدون البدائل ويشترون راحتهم. هذا المستوى من البؤس لا يمكن أن يكون مستمرا ومقبولا بل ومتوقعا فى مصر وغيرها، إذ هو ليس حكرا على مصر، لا يمكن أن يتم التعامل معه على أساس أنه واقع مفروض لا مفر منه. «الغلابة بيعرفوا يتصرفوا»، فعلا؟ وهل سألت السيدة نفسها إن كانت ستتصرف هى لو نبذها المجتمع أو لو قلت قدرتها الشرائية حتى لم تعد قادرة على إعالة أطفالها؟

***

فيلم «يوم الدين» جميل لأسباب كثيرة، لكنه قاس فى تأكيده على ضرورة أن نتفاجأ بجمال روح شخص لفظه المجتمع فتحلى بالصدق والمحبة واستمد من صداقات وجدها فى أماكن غير متوقعة قوة يواجه فيها القهر. ما بقى معى كمشاهدة هو منظر القهر، وليس جمال العلاقات، إذ أننى أؤمن بأن المحبة والصداقة نعمة يجدها كل فرد وتستحق أن يحتفى بها، لكننى أختنق مع أى محاولة لإظهار المحبة كدرع للواقع: لا يوجد فى عرفى مكان لواقع بهذه البشاعة اليوم، فكما قال بشاى فى الفيلم «هو أنا مش بنى آدم؟».

نقلًا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوم الدين قسوة أقوى من الحب يوم الدين قسوة أقوى من الحب



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:13 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة
  مصر اليوم - زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة

GMT 18:02 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم "الدشاش"
  مصر اليوم - محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم الدشاش

GMT 22:20 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تكشف علاقة الكوابيس الليلية بالخرف

GMT 22:21 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

عباس النوري يتحدث عن نقطة قوة سوريا ويوجه رسالة للحكومة

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 06:04 2024 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الثلاثاء 31 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 14:18 2024 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

من أي معدن سُكب هذا الدحدوح!

GMT 21:19 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

البورصة المصرية تربح 7.4 مليارات جنيه ومؤشرها الرئيس يقفز 1.26%

GMT 21:48 2020 الأحد ,04 تشرين الأول / أكتوبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon