بقلم - تمارا الرفاعي
هناك الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية، وربما فى فنون أخرى، سردية تفترض أن دفء المشاعر الإنسانية وصدق العلاقات قد تطغى، لا سيما لمن هم فى الدرجات الأقل حظا، على قسوة الواقع، فيعوض كرم المشاعر عن بخل الدنيا، وتطبطب صداقة غير متوقعة على كتف أنهكته الحياة. هى مشاعر يحاول هذا النوع من الأفلام والأدب أن يصورها وكأنها زهرة ملونة تشق أكثر الترب جفافا فيكسر رأسها صخرة وتفرد الزهرة ورقاتها البرتقالية والحمراء على لون رمادى يطغى على الشاشة.
***
«يوم الدين» فيلم مصرى حصد جوائز عالمية وعلق عليه المختصون بالنقد السينمائى والفنى. وبما أننى متذوقة للفن فقط ولست ناقدة له، فعلاقتى مع فيلم مثله فيها تقدير للجانب التصويرى والجمالى، لكن فيها أيضا شعور بعدم الارتياح حاولت تجاهله أثناء محاولتى التركيز على الأفكار التى يطرحها. الحياة اليومية لمن هم الأكثر استضعافا فى المجتمع، فقراء موصومون لأسباب مختلفة، بطل الفيلم موصوم بسبب إصابته بالجذام الذى غير كثيرا من شكله حتى تخلت عنه عائلته. يبرع الفيلم فى إظهار صدق فى المشاعر التى تربط بين أشخاص يعيشون فى قاع المجتمع، وسط القمامة التى يظهرها المخرج أصلا كخلفية لعدة مشاهد.
***
أحاول فكفكة شعور بالضيق يسيطر على رغم جمال بعض المشاهد، لا سيما تلك التى تظهر هرما وقرى على ضفاف النيل دون أى ابتذال ودون تنميط مضجر غالبا ما يستخدمه المخرجون حين يصورون مصر. فى هذا النوع من السردية افتراض أن نمو صداقات فى القاع أمر مستغرب، إذ يراد عادة من القارئ أو المشاهد أن يتفاجأ بقدرة من هم مسلوبى أدنى مقومات الحياة على الحب بصدق والعطاء بكرم. الفكرة ليست جديدة فقد طرحها كبار الكتاب والمخرجين من أمثال فيكتور هوجو فى البؤساء ونجيب محفوظ فى معظم كتاباته.
***
مرحى لكتاب ومخرجين يصرون على إظهار جمال الأرواح وسط الموت البطىء، حتى يؤكدوا على أن ما يربط بين الناس هو بمثابة الوريد الذى يمدهم بالقوة فى وجه طوفان من النبذ والقسوة والظلم. جميل، لكنى ما زلت أشعر بالضيق، وكأن المطلوب أن نتقبل واقعا مأساويا وكمية مهولة من الظلم، سواء ظلم الدولة التى لا توفر العلاج والمأوى والماء النظيف فى القرن الحادى والعشرين، أو ظلم المجتمع الذى لم يتم محاسبة أفراده على التمييز ضد من هو مختلف، رغم منظومة قانونية عالمية باتت موضوعة بهدف الحد من العنصرية والتحريض المبنى على التعامل مع الاختلاف على أنه خطر أو أقل استحقاقا للكرامة.
***
أن يصر عمل فنى على إبراز جمال الروح وعمق الصداقة وصدق المحبة بين أشخاص يعيشون وسط القبح والذل شىء يستحق التقدير، لكنى أفشل فى رؤية جمال العلاقة على أنها أقوى من بشاعة الواقع، بل أجد هذه الفكرة خطرة أصلا. علقت سيدة التقيتها فى مناسبة اجتماعية أخيرا على موضوع تعويم الجنيه المصرى بقولها أن أكثر من تطاله تبعات التعويم هم المقتدرين من ذوى العادات الحياتية الثابتة والغالية. «الغلابة بيعرفوا يتصرفوا، أما نحن فنعمل إيه؟» بصراحة هالنى طرحها حتى أننى تخليت عن آداب الحديث أثناء محاولتى أن أفهم كيف قررت السيدة أن على «الغلابة» أن يقسموا الرغيف بينما لن تستطيع هى الاستغناء عن مواد مستوردة تشتريها من السوبر ماركت.
***
هذا هو تماما مصدر الشعور بعدم الارتياح الذى يصيبنى حين أشاهد أفلاما من نوع «يوم الدين»: أن أخرج منه وأنا أناقش النواحى الفنية فى تصوير الصعيد المصرى أو تلقائية أداء بطل الفيلم أو واقعية طرح المخرج لأمور كالخدمات الصحية المتوفرة. ليس ذلك ما أريد أن أناقشه ولا تعنينى الصداقات التى تربط الناس فى قاع المجتمع، إذ أننى من المؤمنين أن الصداقات والمشاعر الإنسانية الحقيقية تربط ناس ببعضهم بعضا فى جميع الطبقات الاجتماعية وذلك إن كان يستحق الاحتفاء به فهو لا يجب أن يعامل وكأنه مفاجأة.
***
ما يعنينى بعد مشاهدة فيلم «يوم الدين» هو أن يكون من المقبول عند السيدة التى التقيتها، وعند الكثيرين من أمثالها، أن هذه الحياة البائسة مكتوبة على «الغلابة» وأن عليهم أن يتكيفوا معها على أساس أنها لن تتغير، وأنهم محظوظون بصداقات تخفف من وطأة الواقع عليهم. أما بالنسبة لمن هم أكثر حظا، فهم يجدون البدائل ويشترون راحتهم. هذا المستوى من البؤس لا يمكن أن يكون مستمرا ومقبولا بل ومتوقعا فى مصر وغيرها، إذ هو ليس حكرا على مصر، لا يمكن أن يتم التعامل معه على أساس أنه واقع مفروض لا مفر منه. «الغلابة بيعرفوا يتصرفوا»، فعلا؟ وهل سألت السيدة نفسها إن كانت ستتصرف هى لو نبذها المجتمع أو لو قلت قدرتها الشرائية حتى لم تعد قادرة على إعالة أطفالها؟
***
فيلم «يوم الدين» جميل لأسباب كثيرة، لكنه قاس فى تأكيده على ضرورة أن نتفاجأ بجمال روح شخص لفظه المجتمع فتحلى بالصدق والمحبة واستمد من صداقات وجدها فى أماكن غير متوقعة قوة يواجه فيها القهر. ما بقى معى كمشاهدة هو منظر القهر، وليس جمال العلاقات، إذ أننى أؤمن بأن المحبة والصداقة نعمة يجدها كل فرد وتستحق أن يحتفى بها، لكننى أختنق مع أى محاولة لإظهار المحبة كدرع للواقع: لا يوجد فى عرفى مكان لواقع بهذه البشاعة اليوم، فكما قال بشاى فى الفيلم «هو أنا مش بنى آدم؟».
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع