بقلم - فاطمة ناعوت
مستحيلٌ أن ينسى المرءُ عبارةً غيّرتْ نظرتَه إلى العالم، وعدّلت فى كيمياء تعامله مع الناس. يقول الشاعر ت. س. إليوت: «القصيدةُ الجميلة هى التى تُبدّل نظرتك إلى الأشياء». هكذا فعل بى الكاتبُ الكبير «صلاح منتصر» الذى فقدناه بالأمس، وكان بالحق «قصيدةً حيّة».
وأنا بعدُ صبيّةٌ فى الثانوية العامة، قرأتُ فى عموده بالأهرام هذه العبارة: «الآن، قُلْ لمَن تحبُّه، إنك تحبُّه. لا تؤجل قولها، فربما لا تأتى الفرصة مجددًا». وأنا ابنةٌ لأمٍّ عملية جادّة علّمتنى أن نقول «الحب» بالفعل لا بالقول. علّمتنى أمى أن التعبير عن الحب بالكلام لونٌ من ابتذال الحب. فالحبُّ مسؤوليةٌ وعملٌ والتزامٌ، لا كلمات. وقرّرتُ أن أخوض التجربة، فذهبتُ إلى أمى مباشرة وقلت لها فى خجل: «ماما على فكرة أنا بحبك!»، لمحتُ على وجهها شبهَ ابتسامةٍ سرعان ما اختفت، وردّت فى اقتضاب: «طيب، روحى ذاكرى!» أخفقتِ التجربةُ مع أمى التى تؤمن بفلسفة: الكلامُ يُميتُ العمل. لكن التجربةَ لم تخفقُ مع كثيرين مرّوا بحياتى هم فى أمسِّ الحاجة إلى سماع كلمة: «أحبك!»، تلك الكلمةُ الخفيفةُ فى القول، الثقيلةُ فى الميزان، قد تكون كل ما يحتاجون إليه. هكذا تعلمتُ من «صلاح منتصر» درسًا نسيت والدتى أن تعلمَنيه. الفعلُ هو جوهر الحقيقة وفلسفة الوجود، لا شك، لكنَّ للكلمة سحرًا علينا ألا نغفلَه كذلك. المهمُّ أن تأتى الكلمةُ فى ثوبها الصحيح وتوقيتها المناسب. لمستُ الأثرَ الهائل لكلمة «أنا بحبك» فى دور المسنين التى أستمتع بزيارتها كلما نفدت شحنتى وأردتُ أن أحتشد بالطاقة والحب. لمستُ أثرَها العجيب فى تغيير بشرٍ كانوا لا يعرفون الحب وينشرون لعناتِهم على الناس، تغيّروا حين شعروا أن هناك مَن يحبّهم. لمستُ أثرَها العذبَ فى دور الأيتام، حينما تقولُها لطفلةٍ غادرها أبواها فسقطت من فوقها مظلةُ الأمان والحب.
فى حفل أقامته جريدة «المصرى اليوم» قبل خمسة عشر عامًا، شاهدتُ «صلاح منتصر» يجلس إلى طاولة بعيدة. مشيتُ نحوه وقد قررت أن أقول له: «أحبك» لأنه من علمنى أن أقولها قبل فوات الأوان. نهض حين رآنى وأشرق وجهُه بتلك الابتسامة الطيبة التى يعرفها ويحبُّها كلُّ مَن عرفه. حاولتُ أن أقول له: «أحبك أيها الأستاذ الذى تعلمتُ على يديه الكثيرَ، وأدينُ له بالكثير و و و و». لكننى لم أقل شيئًا! بشاشةُ وجهه عقدت لسانى، فاكتفيتُ بمصافحته بكل ما أكنُّ له من حبٍّ واحترام وامتنان.
«صلاح منتصر» إحدى علاماتِ مصرَ البارزة ليس فى عالم الصحافة وفقط، بل فى جبهة الوطنية وحقل التنوير والمسؤولية الاجتماعية. كان «مثقفا عضويًّا» منخرطًا فى مشاكل مجتمعه غيرَ منعزل فى صومعة الكُتّاب بين الكتب والأوراق والقلم. يشعر بمسؤوليته عن شباب مصر كأنهم أبناؤه، بل بوصفهم أبنائه. لهذا علّم الآباء والأمهات كيف يحتضنون أبناءهم لئلا يفقدوا بوصلةَ التواصل معهم فيضيعون بين أمواج الحياة الهادرة. حملتُه الشرسة فى محاربة التدخين لم تقتصر على مقالاته الطيبة فى عموده الشهير بالأهرام: «مجرد رأى»، بل توسعت لتغدو حملةً قومية اتخذت لنفسها عنوان: «أنتَ سيدُ قرارك» استلّته من مقالات «صلاح منتصر»، وغدت من مقررات «الثانوية العامة» لتعلم النشء مخاطرَ التدخين، وسوف تظل تلك الحملة حيّةً تتنفس لتنقذ ملايين الشباب من غول التدخين الشرس.
«صلاح منتصر» من الكتّاب النادرين الذين أجمع على حبّهم الجميع. فقد كان صفاءُ قلبه منعكسًا بجلاء على وجهه، وكذلك على مداد قلمه. رجلٌ لم يعرف إلا الحب. حب الوطن وحب أبناء الوطن، حب البشر وحب الإنسانية، ومساندة كلّ من يلجأ إليه، والأخذ بيد أصحاب الخُطى الأولى فى بلاط صاحبة الجلالة.
بوسع المرء أن يلمس المحبة الهادرة التى يكنُّها المصريون والعرب لهذا الراحل الكبير، بمجرد نظرة سريعة على سرادق العزاء الهادر الذى حضرناه الأسبوع الماضى فى مسجد المشير طنطاوى. بوسعك أن تختصر القول فى عبارة: «كانت مصرُ والوطنُ العربى هناك!» العديد من رجالات الدولة والوزراء والسفراء والساسة والمفكرين والأدباء والصحفيين والإعلاميين، ووفود من الأشقاء العرب. وأرسل الرئيسُ «عبدالفتاح السيسي» مندوبًا عنه ليقدم واجبَ العزاء لأنه رئيسٌ مثقف يحترم القلمَ والفكر. ووقف الأستاذ «عبدالمحسن سلامة»، رئيس مجلس إدارة الأهرام، ليستقبل العزاء من الوافدين الذين ظلوا يتواترون على مدى الساعات ما بين الأصدقاء والقراء والتلاميذ الذين لا ينسون فضل أستاذهم.
أستاذى العزيز «صلاح منتصر»: ربما لم أقل لكَ كم أحبّك قبل فوات الفرصة كما علمتَنا أن نفعل، لكننى قلتُها حين عانقتُ زوجتَك الجميلة فى ثوب حدادِها، يوم الفراق.