بقلم - فاطمة ناعوت
من جديد فى هذه البقعة الجميلة من العالم، وبين ذلك العِرق النبيل الذى كافح من أجل الحفاظ على هُويته ولغته وأصالته رغم الويل الذى واجه، والعذابات التى خاض. من جديد فى «كُردستان» بين أصدقائى الأدباء والشعراء الكُرد، الذين يتقنون فُصحى العربية على نحوٍ يفوق كثيرين من الناطقين بها، وهى بالنسبة لهم لغةٌ ثانية تالية للغة الكُردية الأم. أكتبُ إليكم من مدينة السُّليمانية العراقية، شرق إقليم كُردستان، الذى يتوزّع بين دولٍ أربع: شمال العراق، جنوب تركيا، غرب إيران، شرق سوريا. وسَلْ كلَّ مَن تعامل مع الشعب الكُردى، يخبرك عن مدى تحضُّرهم وموسوعية ثقافتهم، إلى جانب امتلاكهم ناصيةَ اللغة والإبداع. وأما مدينة «السليمانية» فهى محطُّ الشعراء والعلماء والفنانين والمؤرخين. ولا عجبَ وقد جمعت موهبة كُردستان وعراقة العراق.
أنا هنا بدعوة كريمة من الدكتورة «ابتسام إسماعيل قادر» عميدة كلية العلوم الإنسانية بجامعة السليمانية، ورئيسة مركز «كلاويز» الثقافى، لأكون ضيفةً فى مهرجان كلاويز الدولى فى دورته الـ ٢٥، مع الشاعرة «زيزى شوشة»، والروائية «ريم بسيونى»، التى تعذّر حضورها لظرف طارئ.
مهرجان كلاويز، (تُنطق جلاويش)، هو الحدث الثقافى الكُردى الأشهر الذى لم ينقطع على مدى عشرين عامًا، ويستضيفُ كل عام شعراءَ وأدباءَ كُردًا وفُرسًا وأتراكًا وعراقيين وعربًا ومن مختلف دول العالم، لإحياء هذا العُرس الأدبى السنوى الحاشد. شارك فيه من قبل رموزٌ أدبيةٌ شاهقة، مثل الشاعر السورى «أدونيس»، والروائى الكردى «شيركو فتاح»، والشاعر الألمانى «فولكر براون».. وغيرهم. وكان لى شرفُ زيارة كُردستان من قبل فى مارس ٢٠١٣ بدعوة من الشاعر «حسن سليفانى» لحضور مهرجان «نوروز» الشعرى فى دورته الأولى، والذى ينظمه «اتحاد كُتّاب كُردستان» بمدينة «دهوك». وكانت مصرُ وقتها واقعةً تحت وطأة الاحتلال الإخوانى البغيض، ووقفتُ على المنصّة أُعلن حُلمى: (أرجو أن ننجح فى استرداد وطننا مصرَ من الإخوان مغتصبى الأوطان.).. وها أنا اليومَ أقفُ على أرض «كُردستان» الطيبة وقد تحقق حُلمى، وتحررت مصرُ وخطت خطواتٍ واسعةً فى تشييد «الجمهورية الجديدة» على دعائم الترقّى والتحضر والجمال.
ولهذا، فعشقى للكُرد ليس وحسب لأصالتهم، بل كذلك لكفاحهم ضد الاندثار والذوبان، ودفعهم من دماء شهدائهم لاسترداد الهوية وإقرار حق الوجود، مع حفاظهم على طاقة المحبة والسلام. وتلك معادلةٌ صعبة. وليس هذا وجه الشبه الوحيد الذى يربط بين المصريين والكُرد، بل ثمة روابطُ تاريخيةٌ أخرى. فيخبرنا التاريخُ أن «نفرتيتى» من أصول كُردية، وكذلك عائلات «خان» و«التيمورية»، وأيضًا أمير الشعراء «أحمد شوقى»، و«العقاد» كانا من أصول كردية، وهو ما سجلته فى قصيدتى: «عصفورٌ فوق نهر سيروان» التى ألقيتُها فى حفل افتتاح المهرجان بالأمس:
(كل نهارٍ/ أخرجُ من خَبيئتى فى قُدسِ أقداسِ الهرم/ آخذُ من «نفرتيتى» تميمةً/ أدسُّها فى سَلّتى التى أُخبِّئُ فيها قرابينَ أجدادى من شموسٍ وأمطار/ وتعاويذَ مقدسة من أرضِ سَيناء/ ثم أُعرِّج فوقَ نهر النيلْ/ أرتِشِفُ من صفحتِه رشفةً/ تؤمِّنُ رحلتى الطويلةَ نحو الشرقْ/ أفرِدُ جَناحيَّ/ أقطعُ المحيطاتِ والوديانَ والصحارىَ/ وعند الغروبْ/ أكونُ قد وصلتُ إلى مَكمَنى الشرقى/ أحُطُّ فوق جبل «أزمر»/ ألتقطُ أنفاسى/ أتحمَّمُ فى بحيرة «دوكان»/ ومن نهر «سيروان»/ أروى ظمئى/ أستمعُ إلى ما تيسَّرَ من سورة «غافر» تأتينى من المسجد الكبير/ ثم أهبِطُ على قلعة «شيروانة»/ أدخلُ صومعةَ الشِّعر لأقضى ليلتى/ مُنصِتةً إلى مُعارضاتِ/ «نالى الشَّهرزورى» مع «أحمد شوقى»/ أنا عصفورةُ القلوبِ الكسيرة/ أرفعُ الغيماتِ فوق رؤوسِ المُتْعبين/ وتحتَ أقدامِ القُسَاة/ أنثرُ الموسيقى والحِنّاءَ لعلَّ نبتةً خضراءَ تورقُ فى القلوبِ الجامدة./ عند الفجر/ أُحلِّقُ فوق «باركى دايك»/ أُنصِتُ إلى تغريد العصافير/ وهى تحوِّم حول الأمِّ وطفلِها/ أضعُ رأسى على صدرِها الطيب/ فتُربتُ على رأسى حتى أغفو برهةً/ أناجى فيها أطفالى فى أرض طِيبة/ ثم أصحو/ أقطفُ زهرتين/ واحدة: سوف يشبكها شاعرٌ فى جديلةِ حبيبتِه/ والأخرى/ أخبِّئُها فى سلتى وأطير/ فإن مرَّ بى قبرٌ/ ألقيتُ عليه زهرةً لتَدُّلَّ امرأةً حزينةً/ على ضريحِ حبيبِها/ أنا عصفورةُ الحبِّ والسلام/ أدُقُّ أوتادى/ حيث يلتقى العشّاقُ والطيبون/ لكننى لا أسكنُ خَيمتى/ بَلْ أتخفّىَ بين أوراقِ الشجرْ/ لأتنصَّتَ على الأحِبَّة/ عساى أعرفُ من أين تضرِبُهم سهامٌ/ تخرجُ من قوسِ الطفلِ المشاكسْ./ اليومَ/ حططتُ رِحالى بين أغصانِ شجرةٍ/ تميلُ بجذعِها على صفحة «دَربَندِخان»/ حيث نادانى صوتُ شاعرٍ: كُرديٍّ عراقيٍّ مصريٍّ قبطيٍّ/ أو «إنسان»/ قدّم لى قطعةَ من «المَنِّ والسلوى».
ثم قال: قبلما تَحزمين مِخلاتَكِ/ وتعودين إلى مصرَ/ خُذى من أرضِ كردستانَ/ كأسًا من ماء الفرات/ وصُبِّيه فى ماءِ النيل/ حتى يلتقى النهران/ فلا ينامُ ظامئٌ ظامئًا/ ولا حزينٌ/ يدخلُ مِخدَعَه حزينًا/ ولا شريدٌ/ إلا ويجدُ نفسَه/ فى حضنِ الوطن).