بقلم - فاطمة ناعوت
كنتُ فى الطريق إلى «حى الأسمرات» بالمقطّم، وفيما أتطلّعُ إلى لافتات الطرق لأختار وجهتى، شاهدتُ لافتةً مكتوبًا عليها «محور سميرة موسى»!، غمر قلبى الفرحُ أن تذكّرنا هذه العالِمة المصرية الجميلة التى تحلُّ ذكرى اغتيالها بعد غد يوم ٥ أغسطس من عام ١٩٥٢؛ لأن عقلها المشرق هدّد عروشَ دول استعمارية تودّ الانفراد بالسلاح النووى لتكون لها الكلمةُ العليا فى صناعة القرار العالمى، وهدد كذلك سدنة تجار السلاح الذين يثرون من دماء البشر.
بروفيسور «سميرة موسى» شابةٌ مصرية من أعظم عقول التاريخ فى مجال الذَّرّة؛ أوشكت أبحاثُها العلمية وتجاربها المعملية على ابتكار قنبلة ذرية من مخلفات المعادن الرخيصة، لتكون حصن أمان لمصر، ومنطلقًا راسخًا لنشر السلام من منطق القوة وامتلاك أداة الدفاع عن النفس. عاصرت الحرب العالمية الثانية، وشاهدت ما حدث لليابان من قصفٍ نووىّ دكّ مدينتى هيروشيما وناكازاكى عام ١٩٤٥، وشاهدت قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨ وإصرارها على الانفراد بالتسلّح النووى فى المنطقة العربية، فخافت على مصر!. كان حُلمها أن تدخل مصرُ حقل التسلّح النووى ليكون لمصر والعرب مكانٌ على خريطة التقدم العلمى، حيث الكلمةُ العليا للأقوى عتادًا وسلاحًا والأكثر تفوقًا علميًّا وصناعيًّا. كانت الفتاة الذكيةُ تدرك أن امتلاك السلاح النووى هو الأرضية الأصلح لتحقيق السلام لأن السلام، فى عالم متوحش، لا يخرج إلا من عباءة القوة، لا الضعف، خصوصًا فى زمن يعجُّ بحروب كونية دمرت شطرًا من العالم. حلمت الصبيةُ الجميلة «سميرة موسى» أن يكون لمصر ظهيرٌ نووى هى الأخرى من أجل الذود عن الوطن وعن المنطقة العربية بأسرها. لهذا، أسّست هيئة الطاقة الذرية، بعد ثلاثة شهور فقط من إعلان قيام دولة إسرائيل المحتلة على أرض فلسطين عام ١٩٤٨، ونظمت وفودًا مصرية للسفر فى بعثات علمية للتخصص فى علوم الذرّة، ولم تتوقف دعواتها للمناداة بوجوب التسلح النووى ليس فقط لمجاراة المد العلمى المتنامى فى العالم آنذاك، ولكن أيضًا لحماية الوطن من خطر الكيان الصهيونى الاستعمارى الآخذ فى الاستقواء آنذاك بقوة السلاح النووى والدعم الأمريكى. ثم نظّمت، فى كلية العلوم بجامعة القاهرة، مؤتمرًا عالميًّا شارك فيه عددٌ من علماء العالم، أطلقت عليه اسم: «مؤتمر الذرّة من أجل السلام» حتى تنشر فكرتها أمام العالم وهى: «طلب التسلح النووى من أجل ترسيخ فكرة السلام القائم على النديّة والمساواة والعدالة». كانت تحلم بأن تُستخدم الذرّة لا لقتل الإنسان، بل لعلاجه من أشرس الأمراض: السرطان. أحلامُها كانت أكبر من أن يتحملها عالَمٌ متوحش، فتقرّر تصفيتُها، ووقع الاغتيال فى أمريكا فى ٥ أغسطس ١٩٥٢، قبل بلوغها الخامسة والثلاثين من عمرها.
المدهشُ فى تلك الشخصية الاستثنائية أنها كما تعمّقت فى دراسة الفيزياء كانت بارعة فى قراءة النوتة الموسيقية والعزف على العود، كما برعت فى التصوير الفوتوغرافى، وخصصت ركنًا من بيتها لتحميض أفلام الصور وطباعتها. وكانت تُصمّم وتحيك ملابسها بنفسها، وبرعت فى نسج التريكو. وكانت تقود القوافل الشعبية لمحو الأمية فى الريف المصرى، وإنقاذ الطفولة المشرّدة وجمع التبرعات للأسر الفقيرة فى القُطر المصرى. وقادت ثورات ضد المحتلّ الإنجليزى آنذاك.
وكان لابد للعدو من وضع نهاية لتلك الحياة القصيرة الحافلة بالعلم والوطنية والنضال والامتياز العقلى. استجابت د. «سميرة موسى» لدعوة من أمريكا عام ١٩٥٢ لإجراء أبحاثها فى معامل جامعة سان لويس بولاية ميسورى الأمريكية. وحاولوا استقطابها للبقاء هناك للتدريس، ولكنها رفضت، وأصرت على العودة لمصر، التى لا تعرف لها وطنًا سواها. وقبل عودتها بأيام بعد زيارة معامل نووية فى ضواحى كاليفورنيا، دهم سيارتها لورى ضخم فسقطت مهشّمة فى وادٍ عميق. حدث هذا بعد تصريح خطير لها قالت فيه: «لو كان بمصر معاملُ مثل هذه لاستطعت عمل الشىء الكثير فى بلادى. وحين أعود إلى مصر سأقدم للوطن خدمات جليلة فى مجال الطاقة النووية لأخدم قضية السلام من منطلق القوة». وأُجهض حلمها فى إنشاء معامل فى منطقة الهرم بالجيزة. تحية احترام لروح الوطنية الخالدة العسراء «سميرة موسى»، ابنة مصر البارة.
لكن مصرَ أمَّ النجباء لم تتوقف يومًا عن منح العالم عقولًا مشرقة فى مجالات العلوم والفنون. أحدثُ نجيباتها نبتةٌ مصرية صغيرة لم تغادر بعد فستانَ الطفولة، اسمها «سوسن أحمد»، عمرها اليوم ١٣ عامًا. حصلت العام الماضى على لقب: «أصغر طالبة تتخرج فى كلية «بروارد» فى تخصص العلوم البيولوجية بولاية فلوريدا الأمريكية طوال تاريخ الكلية البالغ ٦١ عامًا». وهى كريمة د. «وسام أحمد»، الطبيب المصرى فى مركز السرطان فى «كليفلاند كلينك» أبوظبى. وتستكمل الطفلةُ المصرية العبقرية مسيرتها العلمية فى جامعة فلوريدا الأمريكية، وتخطط لدراسة برمجة الكمبيوتر والكيمياء وعلم الأحياء. تحية احترام لكل عقل مصرى عظيم يرفعُ اسمَ مصر فى أعالى الدنيا، وتحيا مصرُ صانعة الحضارة والمجد.