كيف تصفُ بالكلمات رائحةَ زهرة الياسمين، أو طعمَ ثمرة البرتقال، أو صوت طائر الوقواق؟!.. مستحيل! رسمُ الجمالِ بالكلمات صعبٌ لأن اللغةَ قاصرةٌ. لابد من مشاهدة الجمال وتذوقه وسماعه.
كيف ترسمُ بالكلمات لوحةً لـ«فان جوخ»، أو قطعة لـ«تشايكوفسكي»؟.. مستحيل. عليك أن تكتب: اذهبْ إلى متحف جوخ بأمستردام وشاهد بنفسك زارعى البطاطس وقمح آرل، وتوجّه إلى دار الأوبرا وأنصتْ بنفسك إلى صوت الجمال هناك. لا شىء بوسعه وصف الجمال إلا مشاهدة الجمال والإنصات إلى وقعه.
لهذا، فأنا أمام معضلة صعبة، إذْ أحاول منذ أيام الكتابةَ عن الحفل الباذخ الذى حضرناه الأسبوع الماضى فى «دولة الأوبرا المصرية» على شرف الجمال والموسيقى والحب. أما الموسيقى فهى مقطوعاتٌ آسرة من تأليف الموسيقار الرائع: «راجح داوود» وقيادة المايسترو الجميل «ناير ناجى» وعزف «أوركسترا أوبرا القاهرة». وأما الحبُّ فهو قلب المفكر الكبير «د. مصطفى الفقى». لا شىء أغلى من قطعة من الموسيقى يُقدّمُها إنسانٌ لإنسان.
نحن، البشر العاديين، نتهادى بالموسيقى. فأُرسلُ إلى صديقتى مقطعًا من باليه «بحيرة البجع»، ويهدينى زوجى أغنيةً لعبدالحليم، ونُهدى أمهاتِنا «ست الحبايب» بصوت فايزة. نحن هنا «سُعاةٌ ومراسيلُ» ننقلُ «الجمالَ» من مكان إلى مكان؛ حتى ترِقَّ قلوبُنا وتصيرَ الحياةُ أكثرَ عذوبةً.. لكن «صناعةَ الجمال» وإهداءَه شىءٌ آخر. أن تُهدى مؤلفاتك الموسيقية إلى عزيز، فهذا يُعيدنا إلى زمن الأرستقراطيات، حيثُ الموسيقى تُظلِّلُ المدنَ وتُعمِّرُ القلوب.
أهدى «بيتهوڤن» سيمفونيته السابعة إلى الكونت «موريتس ڤون فريس»، أحد رُعاة الموسيقى فى النمسا. وأهدى قبل ذلك سيمفونيته الثالثة إلى «نابليون بونابرت» حينما رأى فيه الفارس الداعم لقيم الثورة الفرنسية التى نادت بالحرية والعدالة.. وحين صنع من نفسه إمبراطورًا، عدل «بيتهوڤن» عن الإهداء.
إذن كانت الموسيقى، وسوف تظلُّ، العُملةَ الأغلى، يُقدمها الموسيقارُ إلى رموز تصنعُ الحياةَ الأفضل. أعادنا الموسيقارُ «راجح داوود» إلى تلك اللحظة الراقية؛ حينما قرر إهداء باقة من مؤلفاته إلى «د. مصطفى الفقى» تقديرًا لمشواره الوطنى الرفيع وقيادته المتحضرة لمكتبة الإسكندرية وحصولها على جائزة الشيخ زايد فى عيد ميلادها العشرين هذا العام ٢٠٢٢. عَظُم المُهدِى والمُهدَى إليه. الُمهدَى إليه هو الدكتور «مصطفى الفقى»، الذى علمنا كيف نقرأ الماضى لنعرفَ معالمَ المستقبل.
الحكّاء العظيم الذى يُشَرِّحُ أوصالَ التاريخ ويشرحُ أعقدَ الظواهر السياسية والاجتماعية بأسلوب يسْرٍ مرحٍ. فالتاريخُ ليس أحداثًا ومواقفَ ومعاركَ ومصالحَ ومواءماتٍ، بل هو: دالٌّ ومدلولٌ ودلالة. لا شىء يحدثُ عَرَضًا. فالأحداثُ تجرى وفق منظومة دقيقة من التراتبية والتوافقية والسببية، مثل نظرية «أثر الفراشة»؛ حيث الأجزاءُ تؤثرُ وتتأثر ؛ فتُغيّرُ الكلَّ. لو وقع أمرٌ فى الشرق الأدنى، تجلّى أثره فى الغرب الأقصى، وإن صدَعَ شأنٌ فى جنوب الأرض، سُمِع له وجيبٌ فى شمالها.
العالمُ المترامى يُشبه أوركسترا متناغم/ متصارع يعزف كونشرتو تتبدّلُ نوتتُه على مدار اللحظة. يُغرِّدُ الكمانُ بعذوبة، فيردُّ عليه الناى بحزن، يزأرُ التشيللو بصلافة، فتُقرعُ الطبولُ مُهدِدةً بغضب، وينفخ الأوبوا بجنون، فيُدندنُ الهارْبُ بحكمة، فتردُّ الماريمبا ساخرةً من الجميع، وهى تُرسل ابتساماتها إلى الدُّفّ لكى يضبطَ إيقاعَه على النغم الجديد.
وأما المُهدِى فهو الموسيقارُ الذى برع فى رسم «الفكرة» على نوتة النغم. «راجح داوود» فى موسيقاه التصويرية بالأفلام والدراما يعرف كيف «يُحضِّرُ» وجدانَ المشاهِد حتى يتأهّلَ للحدث. الموسيقى التصويرية عند «راجح داوود» ليست خلفية للمشهد، بل هى خيوطٌ أساسية من نسيج المشهد، لو استُلَّ منها خيطٌ؛ تداعى العمل وتفكك.
وهنا أعود إلى المعضلة: كيف أصفُ بالكلمات صوتَ الڤيولين، الفلوت، الكلارينيت، أو التشيللو؛ بين أصابع الأوركسترا؟.. كيف أرسم صوت «الأرغن» يعزف عليه «راجح داوود» بنفسه فى مقطوعة «بسكاليا»، التى وضعها موسيقى تصويرية لفيلم «الكيت كات» عن رائعة «إبراهيم أصلان»: «مالك الحزين» وإخراج العظيم «داوود عبدالسيد»؟!.. كيف أرسمُ بالكلمات العصا النحيلة فى يد المايسترو «ناير ناجى»، ترتفعُ لتلتقط «جواباتِ» النغمات من حناجر الآلات الموسيقية، وتهبطُ لتضع «القراراتِ» فى قلوب الجمهور الذى ملأ مقاعد المسرح الكبير بقاعته ومقصوراته؟.
كيف تصفُ الكلماتُ «رسائلُ البحر» على ضربات الماريمبا والتشيللو والبيانو، وإيقاعات «نصر السماء» على الطبول والجيتار، و«عصافير النيل» على وخزات القانون الشرقى الموجعة، و«ترنيمة الصلاة الأخيرة» على أنين الكلارينيت وصدمات التشيللو؟.. كيف أرسمُ «تقاسيم» راجح داوود على خفقات الأوتار والفلوت؟.. كيف أرسمُ «رقصة الفلوت المرحة» التى تسلم فيها المايسترو «راجح داوود» العصا ليقودَ الأوركسترا وتكون قطعة البون بون فى نهاية الحفل، وهى المقطوعة الراقصة التى تعزفها كثيرًا ساحرةُ الفلوت الفنانة «إيناس عبدالدايم»، وزيرة الثقافة الجميلة؟.
شكرًا على ليلة من وراء العقل قضيتُها فى دولة الأوبرا المصرية على شرف الحب والجمال والموسيقى.