بقلم - فاطمة ناعوت
مَن يقرأ عنوانَ المقال سوف يظنُّ لوهلةٍ أنه مقتطفٌ من قصيدة أو عبارة سابحة فى قطعة أدبية. فالقطاراتُ مصدرُ إلهام للشعراء؛ لأنها سطرٌ مارقٌ فى الحياة، يحملُ اللقاءات والوداعات، وينقلُ المعلومَ إلى المجهول، وقد يسرقُ منّا أحبابَنا إلى حيث لا يعودون، أو يخطفُ أحلامَنا ويمضى إلى حيث يمضى القنّاصةُ بما قنصوا. ورُبَّ عاشقٍ ينتظرُ قطارًا يحمل حبيبتَه، ورُبَّ ثكلى لا تبرحُ رصيفَ المحطة تنتظرُ عودة ابنها الشهيد. كذلك «النوافذ» مفردةٌ شِعرية. فخلف ستارة كل نافذة فى هذا العالم، دراما وحكايا لا تنتهى. حتى مفردة «يرشقُ» تحمل من الشِّعر ما تحمل. فسهامُ الحب تنطلق من قوس كيوبيد لترشقَ قلوبَ العشاق، والرُّماةُ يرشقون طرائدهم بالرماح لترتسم لوحاتُ الخوف والوجل وتتلوّن صفحةُ الحياة بفرشاة العذاب. ولكنك عزيزى القارئ الذى اختطفك الشعرُّ والخيالُ، حين تلمحُ «علامة التعجّب»(!) فى نهاية العنوان، سوف يُخامرُك الشكُّ، وتتلبّسك الحيرةُ، وترتدُّ إلى واقعنا ردًّا مباغتًا. لأن الشِّعرَ يتخفّفُ من علامات الترقيم، خصوصًا «علامات التعجب»!، فالشعرُ نفسه «حالة تعجّب»!، الشعرُ لا يطرحُ إلا العجائب من إشراقات القلوب والعقول؛ فلم يعد يثيرُ عجبَ الشِّعرِ عجيبٌ. لكلّ ما سبق، أرجو ألا أُفسِدَ عليكم نهاركم الطيبَ وأُخرجكم من تأملاتكم الشعرية لأخبركم بأن: لا شِعرَ فى الأمر ولا أدبَ ولا خيالاتٍ!، وأن «علامة التعجب» فى العنوان، وبعد كل جملة فى المقال، ضرورةٌ لُغوية لإبداء التعجب الحزين والدهشة المريرة، والاستياء المحبط!.
كنتُ فى المحطة أنتظرُ قطارى الجميل وأنا أعدُ نفسى برحلة مُلهمة ستقتنصُ الشِّعرَ من رؤوس الأشجار التى سترتحلُ معى عكسيًّا عبر نوافذ القطار، وأخمّنُ عدد الطيور التى ستُلوِّح لى بأجنحتها طوال رحلتى. وجاء القطارُ يتهادى مثل ملك فى موكبه، ثم توقّف ليُخرجَ من جوفه ما يحملُ ليستبدل بهم مسافرين آخرين. وفيما أجمعُ حقائبى وأحكى لابنى «عمر» عما ينتظرنا من بهجات وفرح فى رحلتنا الوشيكة بالقطار، وعيناى تمرّان بشغف على نوافذ القطار، وجدتُ نوافذَ مموّهةً بانعكاسات الضوء كأنها من الألماس وليس الزجاج الشفاف الذى اعتدناه فى النوافذ!، سألتُ مَن حولى: «لماذا هناك نوافذُ شفافة وأخرى غير ذلك؟!»، ولم أنتظرُ الإجابة واقتربتُ من إحدى تلك النوافذ، لأكتشف أنها مهشّمةٌ دون انهيار، فيما يشبه ما نسميه فى أدبيات السيارات: «كانسر الزجاج»!، المدهشُ أن النوافذ المسرطنة أكثر عددًا من السليمة!، هتفتُ بصوت عال: «إيه ده؟!»، ووقفتُ لأتلقى الإجابة!، دهشتى من عدد النوافذ المهشمة، تضاءلت أمام إدهاش الإجابات التى تلقيتُها. المدهشُ أن الإجابة جاءتنى ببساطة وكأنها من طبائع الأمور!، قالوا لى: «ده بسبب العيال اللى بترمى الطوب على القطار طول رحلته». قالوها هكذا ببساطة ودون دهشة ولا علامة تعجب!، مدهشٌ جدًّا أن تنطقَ بالمُدهش دون دهشة!. سألتهم: «ليه؟!»، فقالوا: «ليه إيه؟»، كررتُ سؤالى بدهشة أكبر: «ليه الأولاد بيرموا الطوب على القطار؟!»، فتوالت الدهشاتُ كرصاصات فى قلبى!، منهم من قال: «كده!»، ومنهم من رفع كتفيه وحاجبيه وصمت، ولم يدرِ بماذا يجبُ!، ومنهم من اندهش من دهشتى ورمقنى شزرًا كأننى حمقاءُ تسأل عن أشياءَ إن تُبدَى لى تسوؤهم!، ومنهم من استنكر سؤالى لأنه سؤالٌ غبى!. دخلتُ القطار حزينةً وأنا أقبضُ على يد ابنى «عمر» خوفًا عليه من عالمٍ عجيب يرشقُ فيه الأطفالُ نوافذَ قطارات «وطنهم» دون سبب!، أو لسبب مجهول لم يتوصل إليه خبراءُ علم الاجتماع!. جلستُ فى مقعدى، وقد نفضتُ عنى كل الحكايا التى خبأتُها لأحكيها لطفلى الكبير طوال الرحلة!، وفتحتُ هاتفى على محركات البحث حول رشق القطارات فى مصر!، فهالنى أنها ظاهرةٌ مخيفة تحاولُ الدولة التصدى لها بصكّ القوانين والتلويح بالعقاب لمتهمين مجهولين!، هم من «الأطفال»، أحباب الله، الذين لا جُناح عليهم ولا هم يعرفون ماذا يفعلون!.
هالتنى أخبارٌ من قبيل: «كشف رئيس رابطة قائدى قطارات السكة الحديد، أن القطارات تتعرض بشكل يومى لاعتداءات بإلقاء الحجارة بمداخل المحطات التى تتمركز فيها المساكن العشوائية والمدارس والأسواق، وتزداد ظاهرة التعدى أثناء الدراسة، ويرشق الطلابُ القطار بوابل من الطوب والحجارة». وأكمل: «لو قلنا فى يوم مفيش خساير، هيكون تكسير ٨ ألواح زجاج». رشق القطارات بالحجارة يعرض الركاب وسائقى القطارات للخطر، عطفًا إلى التلفيات التى يتم إصلاحها من ميزانية السكك الحديدية، ما يشكل عبئا على ميزانية الصيانة الدورية.
علينا مواجهة تلك الظاهرة المخجلة بدراسة الأمر بجدية لمعرفة طبيعة «المتعة» التى يجنيها الصغارُ من تلك الجريمة اليومية. علينا تسليح الصغار بالأخلاق لأنها وحدها التى تواجه هذه الظاهرة المدهشة. وفى مقال قادم سأقصُّ عليكم طرفًا من أسلوب تنشئة الطفل فى اليابان على قيمة «الأخلاق