بقلم - فاطمة ناعوت
بعد غدٍ، ١ يونيو، تتجددُ ذكرى حدثٍ تاريخى مشهود من تاريخ مصرَ الثرى. هو اليوم الذى دخلت فيه مصرَ السيدةُ العذراءُ، مريمُ المُطهّرة، حاملةً على ذراعيها طفلَها السيد المسيح عليهما السلام، هربًا من هيرودس الرومانى، ملك فلسطين آنذاك، الذى تعهد بقتل كل طفل يولد، خوفًا من أن يصير الطفلُ ملكًا ينازعُه الحكم، كما أخبرته النبوءاتُ. ولم يدرِ هيرودس أن الملك الذى تقصده النبوءة، ملكٌ روحى رسولُ سلام، زاهدٌ فى نِعم الدنيا، لا يعبأ بالذهب والياقوت والقصور، لأن مملكته ليست من هذا العالم. احتضنت مصرُ الطيبةُ بين ذراعيها هذا الطفل المبارك لتحميه من القتل فى فلسطين، ولم تتركه يمضى مع والدته إلا بعد موت السفاح هيرودس، فعاد ووالدتُه ورفيقُ الرحلة «القديس يوسف النجار» إلى فلسطين من جديد، بعدما مكثوا فى مصر أعوامًا ثلاثة، باركوا كل شبر فيها.
رحلة العائلة المقدسة لأرض مصر، هى امتيازٌ روحى وتاريخى لبلدنا العظيم دونًا عن سائر بلاد العالم. فأىُ أرضٍ سوى أرض مصر الطيبة استقبلت ذاك الوليد الجليل، وأمَّه أطهر نساء العالم؟! طوته مصرُ بين جناحيها، وحماه اللهُ ليكبُرَ ويغدو رسولَ السلام للإنسانية كافة، «يجول يصنع خيرًا»، بعدما طوّبه اللُه فى القرآن الكريم بالسلام عليه: «يومَ وُلِد ويومَ يموتُ ويم يُبعثُ حيّا». أرضُنا الطيبةُ كانت لتلك العائلة: «ربوةً ذات قرار ومعين». جالت فى أرضنا المصرية سيدةُ الفضيلة البتول، فتفجّرت تحت قدميها عيونُ الماء، وشقشقت فى كل بقعةٍ وطئتها زهورُ البيلسان، فامتلأت أرضُنا بخصب لا يبور، وإن بارت بقاع الأرض، وبركةٍ لا تنفد، ونور ساطع لا يذوى.
فقط أرضُ مصرَ، من بين أراضى الكون الشاسعات، اختارتها العائلةُ المقدسة ملجأً وسكنًا، فأحسنتْ أرضُنا الدافئةُ استقبال ذلك الوفدَ الكريم، وضمّت بين شغاف قلبها طفلاً قدسيًّا، لتحميه من قاتل الأطفال.
طافت العائلةُ المطوّبة من شرق مصر إلى غربها إلى جنوبها ثم عادت من حيث أتت. دخلوا مصرَ من باب «رفح»، ثم «العريش». ومن سيناء الشريفة، دخلوا «تل بسطا» بالزقازيق. وظمأ الطفلُ ولم ينجدهم أحدٌ بشربة ماء، وبكت الأمُّ الصغيرةُ، فتفجّرت بئرُ ماء تحت قدمى الشجرة، وارتووا. واستأنفوا الرحلةَ إلى «مُسطرد» ثم «بلبيس» ثم شمالا نحو «سمنّود»، ثم غربًا نحو «البُرّلس»، ثم «سخا»، ثم «وادى النطرون». بعدها دخلوا منطقة «المطرية» و«عين شمس». بعد ذلك ارتحلوا إلى «الفسطاط»/ بابليون، بمصر القديمة فاختبأوا فى مغارة، محلُّها الآن كنيسة «أبوسرجة» الأثرية. بعدها دخلوا «المعادى»، ثم سافروا جنوبًا نحو صعيد مصر ومكثوا برهةً فى قرية «البهنسا». ومن بعدها ارتحلت العائلةُ المقدسة جنوبًا نحو «سمالوط» ومنها عبرت النيل شرقًا حيث «جبل الطير» ودير السيدة العذراء. ثم عبروا من جديد من شرق النيل إلى غربِه إلى حيث بلدة «الأشمونيين» التى شهدت بركاتٍ عديدةً للسيد المسيح. ثم ساروا جنوبًا نحو «ديروط» ثم «القوصية» ثم غربًا حيث قرية «مير». إلى أن دخلت العائلةُ الطيبةُ منطقةَ «دير المحرّق»، فى قلب مصر، وهى أهم محطّات الرحلة المقدسة، حيث استقرّت بها الأسرةُ قرابة النصف عام، وشُيّدت فيما بعد أقدمُ كنيسة فى التاريخ فى المكان الذى شهد طفولةَ المسيح عليه السلام. بعدها كانت محطتهم الأخيرة بمغارة صغيرة جميلة فى «جبل درنكة» بأسيوط، لتبدأ بعدها رحلة العودة إلى أرض فلسطين.
طوال تلك الرحلة الشاقة، كانت أرضُنا تذوبُ رحمةً تحت قدمى الفتاة التى اصطفاها الله لتحملَ فى خِصرها الرسولَ المُطّوب، فكان وأمُّه آيةً. تفجرت عيونُ الماء فى الصحراء القواحل، ونبتت زهورٌ بين طيّات الصخور، وتساقط فوق كتفى البتول، من جافّ النخيل، رطبٌ شهى يسُرُّ الناظرين. لهذا بارك الكتابُ المقدس أرضَنا الكريمة التى استقبلت المُصطفاةَ، وبارك ابنُها شعبَنا الطيبَ قائلا: «مباركٌ شعبى مصر».
وأوقنُ أن ذلك العهد القدسىّ الذى سطرته مصرُ فى قلبها للمسيح وأمه، ودوّنه التاريخُ فى كتابه، هو سبب تلك العروة الوثقى والرباط الأزلىّ الذى يربط الأقباطَ بأرضهم مصر، التى سمّاها أجدادنا الفراعنة: «ها كا بتاح»، أى «منزل روح بتاح»، وتحوّرت إلى: «كَبَت»، (قَبَط)، ثم «إيخبت» ثم «إيجبت»!.
أُكررُ مناشدتى للدولة المصرية العظيمة بأن تجعل (أول يونيو) عيدًا قوميًّا رسميًّا وشعبيًّا، يحتفل فيه المصريون كافة بذلك الحدث الاستثنائى الفريد. وأناشد الوزير المثقف «د. خالد العنانى»، وزير السياحة والآثار، بأن تنظم وزارة السياحة رحلات سياحية بثمن رمزى للمصريين يقطعون فيها محطّات الرحلة ليعرفوا تاريخنا الفاخر. فيكون لها مردٌّ هائل على إنعاش السياحة، والأهم، انتعاش المعرفة التاريخية عن مصر العريقة فى عقول النشء الجديد. كل عام ومصر مباركة.