توقيت القاهرة المحلي 10:22:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«العالِم».. العالِمُ

  مصر اليوم -

«العالِم» العالِمُ

بقلم - فاطمة ناعوت

فى يناير من كل عام، وحينما يوشكُ على لملمة حقائبه ليمضى نحو فجوة الزمان مُفسحًا الطريقَ لـ فبراير، أنظرُ إلى يدىّ، فى واحدة شمعةُ عيد ميلاد، وفى الأخرى زهرةٌ لضريح. أتركُ الزهرةَ على الضريح الذى سكنه الفيلسوفُ المصريُّ العظيم يوم ١٠ يناير ٢٠٠٩، ثم أسيرُ نحو يوم ١٨ فبراير لأغرسَ الشمعةَ فى تورتة عيد ميلاده، وأوقدها.

هذه ذكراه الخامسة عشرة. وحين ألتقيه فى خيالى؛ كعادتى كلما ضربتنى الحَيرةُ فى أمرٍ ما، سوف أسألُه السؤالَ ذاتَه: (كيف تتلقّى سياطَ السجّان على ظهرك فى النهار، ثم تجالسُه فى المساء لكى تُعلّمه الأبجديةَ وتمحو أميته؟! كيف تكظمُ غيظَ الألم، وتعفو عن جلادك، ثم تُحسن إليه؟!) وسوف يبتسمُ كعادته ويجيبُ الإجابةَ المدهشة ذاتَها: (الأمرُ بسيط! كلٌّ منّا كان يؤدى عمَله. وظيفةُ السجّان تعذيبى؛ لأن الظلاميين أفهموه أننى عدوُّ الله! ووظيفتى تعليمُه لكى أُقشِّرَ عنه حُجُبَ التجهيل، فيدخله النورُ ويدرك الحقيقة.). وصدق الأستاذُ العظيم الذى طبّقَ قولَه تعالى: «والكاظمين الغيظَ، والعافين عن الناس، والُله يُحبُّ المحسنين». تجّارُ الدين يُضللون البسطاءَ ليصنعوا منهم جلادين يضربون بهم رؤوسَ التنويريين. فالرأسُ المستنير هو العدوُّ الأول لأدعياء الدين. والتنويرىُّ يحملُ مِشعلَ التنوير لينيرَ الدربَ لشعوبٍ يُراد لها أن ترعى فى الظلام حتى تنهارَ الأوطانُ وتتقوّضَ الحضارات.

يوم ١٨ فبراير، نحتفل بعيد ميلاد المفكر المصرىّ الكبير «محمود أمين العالم» الثانى بعد المائة، ويطفئ شمعته فى السماء. كلُّ عام وابتسامتُه الشهيرة مشرقةٌ كما عوّدنا، وكما خلدتها الصورُ، لكى نتعلمَ من تلك الابتسامة معنى التفاؤل وقيمة الثقة فى غدٍ أجمل يستحقه هذا الوطن. هو أحدُ النبلاء الكبار الذين أحبَّوا مصرَ، وآمنوا بقوتها وقدرتها على عبور المحن. لو كان بيننا اليومَ لـ سمعتُه يقولُ لى كعادته: (لابد أن تنهضَ مصرُ وتنتصرَ للفقراء، ويتحقق الأملُ الذى كافحنا من أجله عقودًا طوالا. فالسياطُ التى مزقتْ ظهرى وظهورَ شرفاء مصر لن تذهب سُدى، بل سوف تتشابكُ وتتجادلُ وتصنعُ نسيجًا قويًا يرسم لوحة مجتمع «الكفاية والعدل»، الذى أفنينا أعمارنا قربانًا له؟ ألا تعلمين أن القصائدَ التى حفرتُها بأظافرى على جدران «سجن القلعة» لا تزال شاخصةً لم تغمض عيونَها خمسةً وستين عامًا، ولن تغمضَها لكى تظلَّ شاهدةً على مصر من نوافذ الظلام، حتى يشرقَ التنوير الكامل فى دروب الوطن.).

(يا مسجون كَسّر الصخرة! للصخرةِ سبعةُ أبواب، شوف فين الباب واضربْ!).. هكذا كان يزعقُ السَّجّانُ الخشنُ فى وجه المفكر المصرى الكبير «محمود أمين العالم» فى معتقلات ١٩٥٩، وهو يلوّحُ بالسَّوط فى يده، والشررُ يتطايرُ من عينيه المتقدتين بالغضب والوعيد. هو السَّوطُ الذى نالَ من ظهر السجين «العالِم» العالِم. هذا أثناء النهار، أما فى المساء، فكان السجين الكريم يدعو إلى زنزانته السجّانَ الخشِنَ لكى يعلّمَه القراءةَ والكتابة!.. تصوّروا!. أندهشُ وأهتفُ فى عجبٍ: (يا أستاذ محمود، يجلدُك السجانُ بالنهار، وتمحو أميّتَه بالليل؟!.. هل هذه قدرات بشر؟!)، فيقول الأستاذُ، وابتسامته الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ وجهَه: (طبعًا يا فاطمة، كلٌّ يؤدى واجبَه بإخلاص. هو يؤمن أن جلْدَه لى واجبٌ دينى ووطنى، فيؤديه بإتقان. وأنا أؤمنُ أن واجبى الدينى والأخلاقى والوطنى تعليمُه وتثقيفه هو وغيره ممَن جعلهم الظلاميون أُميّين غلاظًا لكى يبطشوا بهم أعداءهم من مثقفين يكافحون من أجل تحقيق الخير والعدالة لمثله من الأميين والفقراء. هذا حقُّه علىَّ). أسألُه: (ألم تكره سجّانَك أبدًا يا أستاذ محمود؟!)، فيجيبُ الأستاذُ ضاحكًا: (مطلقًا! كيف أكرهه وهو ضحيةٌ؟.. بالعكس، كنتُ أحبّه وأشفقُ عليه. وأصغى إليه فى النهار إصغاءَ التلميذِ لأستاذه وهو ينظرُ إلى الصخرة، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها لكى أهبطَ بمِعولى عليها فتتحطم. ذاك كان عملى فى عقوبة الأشغال الشاقّة. السجانُ يعلّمنى بالنهار كيف أُفتتُ الصخور. وأنا أعلّمه بالليل كيف يفتتُ أسوارَ العتمة من حوله.).. ثم يقضى الأستاذُ الجميل بقية ليله الطويل بالزنزانة فى كتابة القصائدِ على الحائط. ولم تزل تلك القصائدُ موجودةً فى «سجن القلعة»، ترفضُ الحيطانُ أن تمحوها!.

يا أستاذى الجميل.. فى عيد ميلادك الثانى بعد المئة، نعتذرُ لك عن تلك السياط التى تحملّتها بصبر العارفين والقديسين من أجل وطنك وأبناء وطنك حتى يستنيروا. وتعتذرُ لك مصرُ عن سياطٍ قاسياتٍ عبرت معك السنين والعقودَ ورافقت آثارُها ظهرَك حتى القبر. سلامُ الله عليك، وقبلةٌ على يدك!. وأناشدُ الرئيسَ «عبدالفتاح السيسى» أن يتمَّ تكريم هذا الراحل النبيل، وأن يُمنح اسمه الخالد «قلادة النيل»، لقاء ما قدّم لوطنه من فكر وتنوير وشقاء.

شمعة لعيد ميلادك، وزهرة على ضريحك.

«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يضىءُ الوطن

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«العالِم» العالِمُ «العالِم» العالِمُ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon