بقلم - فاطمة ناعوت
في مقالى يوم الاثنين الماضى: «نصوم معًا... صحن فول بالبيض»، حدثتكم عن اعتزامى العكوف على وضع كتاب عنوانه «حكايا المحبة التي لا تسقط»، أسردُ فيه دلائل تجذُّر وشائج المودة بين المسلمين والمسيحيين في مصر. تلك الوشائج التي فوّتت على أعداء الوطن محاولات غرس بذور الفتن لشقّ صف هذا الشعب الطيب، العصِىّ على الشقاق والشتات. على صفحتى طلبتُ من القراء أن يحكوا لى من تجاربهم الشخصية قصصًا تؤكد المحبة التي تعقلُ أبناء مصر بوشائجَ لا تنفصم. ولم أندهش من شلال الحكايات الجميلة التي وردت صفحتى، ومازالت تنهمر، تُبهجُ القلبَ وتُطمئننا على الغد الآمن بإذن الله، وتحلُّ شفرة لغز مدهش اسمُه: «مصر»!. منها حكاياتٌ ماسّة موجعة، وقف فيها المسلم جوار جاره المسيحى، والعكس، ومنها حكاياتٌ طريفة ترسمُ الابتسامة، وتُبرّدُ القلبَ في هجير صعوبات الحياة. طوال شهر رمضان المعظّم، سوف أقتطف لكم بعض تلك الحكايا في مقالىَّ كل أسبوع بجريدتى «المصرى اليوم»؛ يومىْ: «الاثنين» و«الخميس».
■ «نبيل إسكندر»: كنّا نعيش في إحدى قرى الصعيد، وتربطنا علاقات مودّة كبيرة بالجيران، قبل هجرتنا إلى الإسكندرية للتعليم والعمل. وبعد فترة تزوجت شقيقتى وعادت للسكنى في قريتنا القديمة. وبسبب بعد المسافة، كنا بالكاد نتصل بها تليفونيًّا في المناسبات. لكن صديق والدى الحاج «عطية أحمد الهوارى» لم يتوقف عن زيارة شقيقتى في جميع أعياد الميلاد والقيامة، وتقديم ما اعتاد الوالدان أن يقدماه لابنتهما في زيارة الأعياد، من لحوم وفاكهة، والعيدية بالطبع. ولم نعرف بهذا الأمر إلا بعد مرور سنوات، حين أخبرتنا شقيقتى بأن «الحاج عطية» كان يزورها بمستلزمات العيد كما كان يفعل أبى. الله يرحمه ويحسن إليه؛ كان إنسانًا فاضلًا.
■ «محمد المريد»: لنا صديق اسمه «مينا» اشترك معنا في تجهيز عروسين من أيتام المسلمين، وكذلك والدته التي دفعت المبلغ الأكبر. وكل عام يساهم معنا في شنط رمضان.
■ أميرة منير: كان لنا جار سُنّى متشدد، لكنه كان يحترم والدى المسيحى، ويحبّه جدًّا، وبينهما مواقف لا تنتهى. ويوم وفاة أبى، أعلن في ميكروفون المسجد وحث الناس على تقديم واجب العزاء، وحضر الصلاة عليه في الكنيسة!، وكلما شاهدنى في البلد، ويكون غالبًا خارجًا من الجامع جوار منزلنا، يصافحنى ويسألنى عن أحوال أشقائى وإن كنّا نحتاج إلى شىء. كذلك أبى العظيم رحمه الله كان هو الذي بنى المسجد في شارعنا منذ زمن بعيد، وكلما احتاج المسجد إلى تجديد أو توسيع، كان هو مَن يقوم بذلك. ليس لى عمّات بالجسد، ولكن لى عماتٌ وأعمام مسلمون كثيرون، من أصدقاء طفولة أبى، إلى اليوم يكملون رسالة أبى تجاهنا بعد رحيله.
■ «نادية مكرم»: ماما الله يرحمها كان كل جيرانها مسلمين، وكانت بيننا علاقات ود ومحبة وتبادل الكعك والبسكويت والنابت في المواسم والأعياد. وكانت أمى تجمع الأطفال المسلمين لتوزيع الحلويات والفاكهة. ويوم وفاة أمى، كان الأطفال يبكون عليها كأنها أمهم. وكان جيرانها المسلمون نساء ورجالًا يملأون الكنيسة أثناء صلاة الجنازة، وهُمّه اللى فتحوا بيتها، وعملوا الطعام للمعزّين لأننا كنا في حالة صعبة. ربنا يرحمك يا ماما لى الفخر أننى ابنة هذه السيدة الطاهرة الملاك التي أحبها الجميع.
■ «حنان عزت»: في أسرتنا لا نكفُّ عن الحديث عن «تيتة أم موريس»، التي عرّضت نفسها للخطر من أجل أمى. حين كانت أمى عروسًا جديدة، وفى بداية حملها، دخل حرامى شقتها، وهددها، فصرخت أمى تستنجد بالجيران. وجاءت «أم موريس» بعصاة «الغليّة»، وضربت اللص، وأنقذت أمى المسلمة وجنينها من المجرم. وحين تزوجتُ وصرتُ أمًّا، أصابنى اكتئابُ ما بعد الولادة. لم يقف إلى جوارى إلا صديقتى المسيحية «سلفانا» ووالدها «عمو فؤاد»، وكانت تحمل طفلى وتطعمه مع ابنتها «مورين».
■ «جمال نصر عبدالنور»: اعتاد حى «الترعة البولاقية» في «شبرا» على مرأى سيدتين لا تفترقان؛ تذهبان إلى السوق معًا، وتربيان الأطفال معًا، حتى كبر الأبناءُ وصاروا آباء وأمهاتٍ لأحفادٍ مازال الحبُّ يجمع بينهم. لم تفترق هاتان الصديقتان منذ شبابهما، وكهولتهما وشيخوختهما، وحتى وفاتهما. إحدى هاتين السيدتين هي أمى التي ترمّلت في شبابها، ولم يخفف عنها مرارة الوحدة إلا صديقتها المسلمة، التي صارت جدّة لأولادنا تُحضّر لهم العصير والسندوتشات كل يوم. مستحيل أن ننسى لهذه العائلة محبتها على مرور الأجيال: عائلة المذيع المرحوم «فهمى عمر» من قبيلة الأشراف الأصلاء. رحمهم الله جميعًا.
ومن المواقف الطريفة لشقاوة شباب شبرا: عام ١٩٥٦ كنا شلّة أصدقاء، ستة مسيحيين وواحد مسلم، نعمل مهندسين في وزارة الزراعة. واتفق معنا صديقنا المسلم ألا نكشف ديانته للزملاء لكى يأتى متأخرًا ساعة ونصف الساعة يوم الأحد مثلنا.
وإلى حكايات جديدة من دفتر المحبة. رمضان كريم