توقيت القاهرة المحلي 08:23:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«عمر خيرت».. يعزفُ صمتًا!

  مصر اليوم -

«عمر خيرت» يعزفُ صمتًا

بقلم - فاطمة ناعوت

عام ١٩٠١، فرش الإيطاليون الطرقاتِ فى وسط مدينة ميلانو بالقش، حول منزل الموسيقار العظيم «جوزيبيه فيردى»، مؤلف أوبرا «عايدة»، حتى لا يُزعجه ضجيجُ حوافر الخيول وعجلات العربات الخشبية. أولئك قومٌ مثقفون يدركون أن الموسيقار له طبيعة خاصة تختلفُ عن البشر العاديين، فأذناه تلتقطان أدقَّ نغمةٍ مما قد تمرُّ على آذاننا دون انتباه، لهذا كانوا حريصين على ألا تخدشَ أذنيه أصواتٌ نشازٌ جارحة، قد تعكّر صفو روحِه المبدعة.

تذكرتُ تلك الواقعة أمس الأول وأنا جالسة مع ابنى «عمر» فى مسرح أحد فنادق التجمع الخامس، أمام الأوركسترا ننتظرُّ بشغفٍ أن يدخل علينا الموسيقار «عمر خيرت» ليجلس إلى البيانو الشاغر، ويبدأ هديرُ العذوبة. كانت القاعة مكتظة بالجماهير الكثيفة، تعجُّ بالضجيج والشجار العنيف بين بعض الحضور والشركة المنظمة للحفل، إذ أخطأت الشركة وباعت بعض التذاكر مرتين! فكان هناك مئات من الحضور لا يجدون أماكنَ للجلوس! رحتُ أتساءل: «كيف للموسيقار الكبير أن يعزفَ بعد كل هذا الصخب والتطاول الذى لا يليقُ بمتذوّقى الموسيقى الراقية؟!! كان المفترض أن يبدأ الحفلُ فى الثامنة مساءً، وزحفت عقاربُ الساعة نحو العاشرة ليلا ولم ينته الصخبُ والشجارُ، حتى أعلن الموسيقارُ على صفحته انسحابَه من الحفل احترامًا لجمهوره، بسبب سوء تنظيم الحفل.

خرجنا من الفندق والناسُ حزانى. لكننى كنتُ أعرفُ أنهم يفعلون ما فعلتُ أنا وابنى «عمر». كانت موسيقى «عمر خيرت» تُعزفُ فى عقولنا بكامل عَتادها وعازفيها ونغماتها. ذاك أن مقطوعات «عمر خيرت» محفورة فى ذاكرتنا الجمعية ومضفورة بأرواحنا. لكننا نذهب إلى حفلاته لكى تمتزجَ النغمةُ بالصورة، فتسعدُ قلوبُنا برؤياه جالسًا إلى البيانو كما ملك يجلسُ على عرشه. وبين الحين والحين ينظرُ إلينا ليمنحنا بضع كلمات قليلة من معجمه الطيب. فالموسيقىُّ لا يتكلمُ إلا موسيقى، ولغتُه للتواصل البشرى، ليس الحكى، مثلنا، بل بالنغم الماسِّ الشجىّ.

شىءٌ ما أخبرنى قبل الحفل بأن هناك خطأ ما! فى طريقى إلى الحفل، كان الطريق الدائرى فى حالة طوارئ، ومداخل القاهرة الجديدة حاشدةٌ بالبشر والسيارات التى باتت تتحرك بمعدل مليمتر فى الدقيقة. حدسُ المهندس المعمارى داخلى قال لى: «أىُّ مسرحٍ مغلق فى العالم سوف يتسع لهذا العدد الهائل من البشر؟! وكيف سيدخل الموسيقارُ أصلا إلى الحفل فى هذا الزحام؟! لابد أن يستقل هليكوبتر تهبط مباشرة به فى كواليس المسرح!»، ثم انكشف اللغزُ حين علمتُ أن كثيرًا من المقاعد قد بيعت مرتين، ولهذا لم تتسع قاعةُ المسرح للجماهير الكثيفة. خطأ هائل ارتكبته الشركة المنظمة سهوًا، تسبب فى كل هذا الضجيج والشجار، ما أدّى إلى انزعاج الموسيقار الكبير وانسحابه! ولم أستطع أن أمنع نفسى من المقارنة بين حفلات الموسيقار الكبير فى «دار الأوبرا المصرية» بتنظيمها الدقيق وهدوء روادها كونهم فى «حَرَم الجمال»، وبين ما أرى فى حفلة الفندق. لا شىء يشبه «دولة الأوبرا»! ولكن ما حيلتنا والجماهيرُ المصرية والعربية تتوق إلى سماع «عمر خيرت» كلَّ يوم!.

لكنْ، رغم كل هذا لم يخلُ الحفلُ من جمال. أثناء كل هذا الصخب ونحن نُمنّى النفسَ بأن يهدأ الحالُ ويدخل علينا الموسيقارُ الكبير، إذا بطفل جميل يصعدُ إلى خشبة المسرح، ويجلس إلى البيانو ويعزف ببراعة بعض مقطوعات «عمر خيرت». خفّ الصخبُ وبدأ الناسُ ينصتون إلى الصبى الموهوب، وكم كنتُ أتمنى أن يسمعه الموسيقارُ الكبير ليفرح بما غرس من زهور فى أطفالنا. علمتُ بعد هذا أن الطفل اسمه «يوسف أحمد» فى مدرسة «هارودز»، وأن اليوم عيد ميلاده الـ ١١، وحضوره الحفلَ كان هدية والدته له.

قبل عشرين عامًا كنتُ أقودُ سيارتى وأثناء إشارة مرور طويلة كالدهر ومن حولى ضجيج الكلاكسات والبشر، كنتُ أضع كفىّ على أذنى لأخفف وقع الضجيج على عقلى، فأنا لدىّ فوبيا الضجيج. وإذا بزجاج السيارة المجاورة يُفتح، ويطلبُ منى قائدها أن أفتح نافذة سيارتى، ففعلتُ، وأنا أظنه يسألنى عن شىء. لكنه ابتسم وألقى لى شريط تسجيل قائلا: «اسمعى ده!»، نظرتُ إلى الكاسيت لأجد صورة «عمر خيرت»، وضعت الكاسيت فى مسجل السيارة، وأدرت الصوت على الأعلى، لكى أنقذ نفسى من تروما الضجيج.

صمتُ «عمر خيرت» عن العزف بالأمس كان عزفًا فلسفيًّا وأخلاقيا راقيًا. فكما يقوم إيقاعُ الموسيقى على الموازنة بين النغمة والسكتة، ويقوم الإيقاعُ الشعرىّ على الحركة والسكون، ويقوم إيقاعُ العمارة على اللعب بالكتلة والفراغ. فإن الصمتَ كذلك هو الجوهرُ النشطُ للفنون الراقية فى لحظات الضجيج والمشاحنات. فطوبى للصمت حين يعلّمنا جمالَ القول وخفوت الصخب، وشكرًا للصامتين حين يتشاجرُ البشر. شكرًا يا مايسترو «عمر خيرت»، على درس الأمس الذى علمتنا إياه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«عمر خيرت» يعزفُ صمتًا «عمر خيرت» يعزفُ صمتًا



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon