رحل عن عالمنا روائىٌّ وأديبٌ مبدعٌ من أنبل وأرقى مَن عرفتُ فى الوسط الأدبى. «حمدى أبوجليل» الريفىّ المثقف نظيفُ القلب، الذى كان يحلم بعالم أكثر جمالًا وعدلًا وعقلانيةً. كان قد سألنى عن «أول وآخر كتابٍ قرأتُه؟» لينشر هذا التحقيق فى صحيفة «الاتحاد» الإماراتية. ولروحه الطيبة أجيبُ اليوم سؤالَه، وسوف أبدأ بأول كتاب.
أول ما قرأتُ من كتب كان رواية «أحدب نوتردام» للفرنسى الشهير: «فيكتور إيجوو» فى ترجمتها العربية. وطريقة وقوعى عليها كانت فى ذاتها حدثًا لا يخلو من طرافة وشعرية.. ولصوصية أيضًا. كنت عائدةً من المدرسة. وفيما أهُمُّ بدخول بوابة عمارتنا، إذا بحمّالين يصعدون وآخرين ينزلون، على ظهورهم قطعُ أثاث وحقائبُ وصناديقُ ممتلئة أغراضًا وكتبًا. كنتُ حول الثامنة من عمرى.
وقفتُ أراقبُ المشهد وأفكر: لماذا يترك الناس بيوتهم؟ وإلى أين يمضون؟ وماذا داخل خزانة الملابس فوق ظهر الرجل؟.. تاريخٌ من البشر، وحكاياتٌ لا تنتهى للفساتين ورابطات العنق. ألمح كتابًا يسقط من أحد الصناديق المحمولة. أفكر للحظة أن أركض وراء العامل لأنبهه. لكن الفضول جعلنى أمسكُ الكتاب محاولةً فهم عنوانه: «أحدب نوتردام»!.. ما معنى «أحدب»؟، وما معنى «نوتردام»؟. وريثما أفيقُ من تأملاتى، تكون سيارة نقل الأثاث قد مضت، وصار الكتابُ فى حوزتى!.
عنوانُ الكتاب الطلسمى أغرانى بالقراءة، لتكون أول عمل أدبى أقرؤه. «كوازيمودو» و«أزميرالدا».. الأول رمزٌ للقبح الشكلى والتشوّه الخَلقى، والثانيةُ رمزٌ للجمال الجسدى الفاتن. لكنّ كليهما يجتمع فى جمال الإنسان ورقى الروح والفطرة الطيبة. أحدبُ يحمل فوق ظهره نتوءًا شاذًا سيجعل منه أضحوكة باريس القرن الـ١٢، له عين واحدة والأخرى مطموسة، مغلقة، لا يجيدُ الكلام إلا بلعثمة مرتبكة، مما سيحدو بأهالى باريس انتخابه «أميرًا للحمقى» فى احتفالهم السنوى.
لم يكن «كوازيمودو» سوى لقيط وجده راهبُ كنيسة «نوتردام» على بابها فى أحد صباحات باريس القارسة.. تركته أمُّه ربما لبشاعة تكوينه. يلتقطه الراهبُ ويحنو عليه ويربيه حتى كبر وصار قارعَ أجراس الكنيسة الضخمة مما يُفقده السمع، لتكتمل عاهاته.
«أزميرالدا»، يعنى زمردة، البنت الغجرية التى ترقص فى «احتفال الحمقى» فى صحبة عنزتها التى تجيد السحر. سمراء، ممشوقة، شعرها جَعِدٌ فاتن، تسلب ألباب الحضور، فيخطفُها القسُّ ويسجنها فى غرفة بأحد أبراج الكنيسة تمهيدًا لحرقها بتهمة السحر والشعوذة وفقًا لقوانين أوروبا القروسطية. وكان الأحدبُ «كوازيمودو» يدخل محبسها محاولًا مواساتها ويفكر كيف يحميها من مصيرها المشؤوم.
كان قد أحبها لأنها الوحيدة التى لم تسخر من عاهاته، وسقته جرعة ماء حين كبّله القسُّ بالأغلال فى ساحة الميدان عقابًا على خروجه من الكنيسة استجابة لنشوة الفرح بلقب «أمير الحمقى»، جاهلا كمّ السخريات التى يضمرها شباب باريس فيما يتوجونه بالتاج الورقى. كان يحبها. وكانت تشفقُ عليه. كان فى وجودها حيّةً دليلٌ له على وجود الجمال الإنسانى المكتمل فى الحياة. الروح والجسد. لذلك حارب البشرَ جميعًا من أجل حمايتها.
صدَّ بجسده المعوّق بوابةَ الكاتدرائية الضخمة ليمنع دخول الباريسيين، يرومون أن يحطموها بجذوع الأشجار ملوحين بشعلات النيران طلبًا لحرق الساحرة الملعونة. ولما قتلها القسُّ فى الأخير، لم ينتبه «كوازيمودو» لنفسه إلا وقد ألقى بربيبه القسّ من البرج الشاهق، ثم جثا على ركبتيه يبكيهما معًا، قائلًا: «هؤلاء كل من أحببت!».
ثم يدفن نفسه معهما حيًّا، ليحفر الناس القبر بعد سنين فيجدون هيكليْن عظميين متعانقيْن، أحدهما لفتاة، والآخر لمسخ بشرى معوّج الظهر. حين حاولوا فصل الهيكلين يتفتتان عظامًا صغيرة. قرأتُ الرواية مراتٍ عديدة فى ترجمتيها العربية والإنجليزية.
نحن لا ننسى أول رواية قرأناها ولو بعد مائة عام، ولاسيما إذا كان الكاتب «فيكتور إيجوو». عرفتُ تفاصيل الكاتدرائية غرفةً غرفة، وبرجًا برجًا، وجرسًا جرسًا. وحين دخلتُ كلية الهندسة جامعة عين شمس، قسم العمارة بعد ذلك بعقد كامل؛ درستُ الكنيسة فى مساقطها الأفقية والرأسية كإحدى أجمل القطع الفنية التى أفرزتها المدرسة القوطية Gothic Architecture فى القرن الثانى عشر.
شىء يشبه الحلم وأنا أتتبع بقلمى الرصاص خطوط الكنيسة. النوافذ الدائرية بزجاجها الملون المعشق، الأبراج الشاهقة، المنمنمات والحفائر والمنحوتات، الأجنحة الطائرة، تماثيل الملائكة التى تعدُ الخطّائين بالمغفرة. حتى الأرشيدوق «فرولو» و«كوازيمودو» رأيتهما بعين الخيال فى المساقط داخل بعض أروقة الكنيسة وعند المذبح.. كأننى أسير داخلها فى صحبة الأحدب الذى لم أره إلا وسيمًا ساحرًا.
وفى أولى زياراتى لباريس، ركضتُ نحو كنيسة نوتردام لكى أعيش أجواء الرواية من جديد وألتقى بصديقى «كوازيمودو»، لكننى لم أجده. أخرج من نوتردام وأقف على ضفة نهر السين أتأمل البناية الشاهقة، فألمح «كوازيمودو» يلوح لى من أحد أبراجها هاتفا: «تعالى يا ناعوتة، فأنا أحبك أيضًا!».
وفى مقال قادم، أحكى لكم عن آخر كتابٍ قرأتُه.