توقيت القاهرة المحلي 08:27:50 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هذا أبي..

  مصر اليوم -

هذا أبي

بقلم - فاطمة ناعوت

هذا أبى الذي فقدتُه مثل يوم أمس ١٣ أغسطس. منذ طفولتى غرس فىَّ أبى المثقفُ المتصوفُ أن أحبَّ جميع الناس دون تمييز ودون سبب لأن كراهية أىّ إنسان مختلفٍ عنى في الدين أو الطبقة أو العِرق غباءٌ وانحطاطٌ أخلاقىّ وضعفُ إيمان بالله. علّمنى أبى أن أختصمَ، ولا أكره. أن أختلفَ في الرأى، ولا ألعن. أن أُساجلَ خصومى فكريًّا، ولا أدعو على أحد بالموت والويل والعذاب. علّمنى أبى أن أدعو بالشفاء لخصيمى إن مرِض، وأن أدعو بشفاء كل مرضى الدنيا. وإن رحل شخصٌ كنتُ أسمع أبى يقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، اللهم ارحمه وارحمْ موتى العالمين. علمنى أبى ألّا أتمنى الشرَّ لأى كائنٍ حىّ، ولو آذانى لأن القوة في العُلوّ والنبل والغفران، لا في التصاغر والخسّة والانتقام. علمنى أن أقولَ: «سلامًا» لمَن لا يستحقُّ المجادلة لكى أكون من «عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا». علمنى أن أساجل الأقوياء، لا الضعفاء والموتى، فالضِعافُ لهم المساعدة، والموتى لهم المغفرة. علّمنى أبى أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله، وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا لأن الله تعالى حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بيننا محرّمًا كما في الحديث القدسى: «يا عبادى إنّى حرَّمتُ الظلمَ على نفسى، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظالموا». علمنى أبى أن مَن يكره لا يحبُّ. ولهذا أفخرُ دائمًا بأن «جهاز الكراهية» في داخلى مُعَطلٌ منذ ميلادى، ولا أسعى إلى إصلاحه. وأشكرُ الله أننى لم أقبض على نفسى أبدًا مُتلبّسةً بجرم الدعاء على أحد بالشر، مهما ظُلمت؛ وكم ظُلمتُ طوال حياتى!. فقط أدعو اللهَ بأن يفصلَ بينى وبين الظالمين وأن يكشف كيدَ الكَذبة المفترين. هذا أبى الذي غرسَ في قلبى وعقلى قيمَ المحبة والعدل والجمال، وعلّمنى ألّا أبغض لأن البغض خسّة وصغر.

هذا هو أبى المتصوف الجميل الذي حفظ القرآن كاملًا، وكان يؤذنُ للصلاة في المسجد بصوته الجميل، واحترمَ وعلّمنى أن أحترمَ جميع العقائد؛ لأنها سعىٌ إنسانىٌّ نبيل لمعرفة الله وبحثٌ دؤوبٌ عن الخالق العظيم. أحسن اللهُ مُقامَك يا أبى في فردوس الله الأعلى، وشكرًا لكل ما علمتنيه من قيم نبيلة جعلتنى أحيا في حال سلام روحى، رغم أن فاتورة محبة «جميع الناس» باهظةٌ ومُرّة، فأنْ تُحبَّ «جميعَ» الناس يعنى أنْ يحاربَكَ «معظمُ» الناس!، لكننى سأظلُّ في درب المحبة غير المشروطة؛ لأن رضا الله خيرٌ من رضا البشر، وسلامَ الإنسان الداخلى أهمُّ من حُكم الناس على الناس وهم لا يعلمون. ولهذا قال الإمام «علىّ بن أبى طالب»: «لا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلّة سالكيه». ومحبةُ الناس حقٌّ لأن الله أحبَّ جميع خلقه، وهو الحق.

كان أبى الجميل يُجلسنى على ركبتيه ويقرأ لى قصص الأنبياء. وعلّمنى القرآنَ وضبطَ مخارج الكلمات. وكان أبى يعشقُ الطربَ الأصيل، فيُدير جهاز تسجيل جروندج Grundig فيُشيعُ في أرجاء البيت صوت «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«فهد بلان» و«صباح»، أولئك عشقهم أبى وأورثنى عشقهم. وكان أبى وأمى يعشقان القرآن بصوت العظيمين: «المنشاوى» و«عبدالباسط»؛ فورثتُ عنهما عشقَهما. وكان أبى يحبُّ «فؤاد المهندس وشويكار»، ويتباهى بما لديه من ثروة قيّمة من مسرحياتهما مسجّلة على أسطوانات. وكان دائمًا يقول إننى أشبه «شويكار». وذات يوم، قامت أمى بمسح جميع ما سجّل أبى من مسرحيات وأغانٍ من الأسطوانات لكى تسجّل عليها دروس الإنجليزية الذي كان «مستر وليم» يعطيها لى ولشقيقى!، وحين اكتشف أبى تلك «الجريمة» حزن كثيرًا، وخاصمها. لكن خصام أبى كان يذوبُ بابتسامة. وكان خفيف الظل؛ حين تشترى أمى فستانًا جديدًا وتسأله عن رأيه؛ كان يقولُ ضاحكًا: «الحكاية مش السَّدّ، الحكاية القصة اللى ورا السد!»، وحين اكتشفتُ أننى عسراء «شولة»، أي أكتبُ وآكل بيدى اليسرى، وبدأ زملائى في المدرسة يضحكون لأننى عاجزة عن الكتابة مثلهم بيدى اليمنى، ركضتُ إليه باكيةً، فضمّنى إلى صدره، وقال: «هذا تميّز، وليس عجزًا. كثيرٌ من العباقرة كانوا عُسرًا يكتبون باليسرى.. آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندى، نيوتن، مارى كورى، داڤنشى، مايكل- آنجلو، بيكاسو، كاسترو، آرم سترونج، وغيرهم، كانوا من العُسر. وأعلنت منظمةُ Mensa، التي تضمُّ أذكياءَ العالم، أن معظمَ العُسر ذوو نسبة ذكاء مرتفعة». ويقولُ العِلمُ إن چين LRRTM1 في المخ هو المسؤول عن العَسَر؛ لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم في نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينةُ الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر رسّامين ونحّاتين وأدباء وفيزيائيين وعلماء رياضيات. رحمك الله يا أبى الجميل وأحسن مُقامك في عِلّيين

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هذا أبي هذا أبي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon