توقيت القاهرة المحلي 08:39:53 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«ماجدة صالح».. الفراشةُ التى طارت!

  مصر اليوم -

«ماجدة صالح» الفراشةُ التى طارت

بقلم - فاطمة ناعوت

حين زار مصرَ الفيلسوفُ الإغريقىُّ الشهير «أفلاطون»، فى القرن الرابع قبل الميلاد، لكى يستزيد من العلم فى «مكتبة الإسكندرية القديمة»، وصف الموسيقى المصرية بأنها «أرقى موسيقى فى العالم»، وقال إنها الأنسبُ لتكون «لحنَ جمهوريته الفاضلة»، ثم وجّه كلامَه إلى فلاسفة اليونان يوصيهم: «علّموا أولادَكم الفنونَ، ثم أغلقوا السجون» لأن الجريمةَ خصيمةُ الفنون الجميلة.

كلما ازدهر الفنُّ الرفيع، اضمحلّت الجريمةُ، وانتفت الحاجةُ إلى السجون. وأما فنُّ «الباليه»، فهو أرقى الفنون على الإطلاق، إذ يجمع بين «الموسيقى» دُرّة الفنون، وعبقرية الجسم البشرى فى أقوى وأرق وأرشق حالاته، والذى يتجلّى فيه جانبٌ من لانهائية عظمة الله فى خلقه. الباليه كان من ابتكارات المصرى القديم، كما خلّدته جدارياتُ الأسرة الخامسة فى المعابد المصرية.

ومنها «رقصة النجوم»، حيث تتحرك الراقصاتُ فى تشكيل فنىّ متناغم يرمز إلى بروج السماء الاثنى عشر، فقد وجد المصريون القدامى تشابهًا بين الأجرام السماوية فى تناغمها وانتظام حركتها، وبين النغمات الموسيقية من حيث تناغمها أو تنافرها. لهذا رمزوا إلى كل نغمة من النغمات السبع بما يماثلها من الكواكب بالرسم الهيروغليفى.

واعتقد المصريون بأن كل ساعة من ساعات اليوم تتناغم مع نغمة أو تجميع نغمات من تلك النغمات السبع. وبهذا كانت الموسيقى عند قدامى المصريين فنًّا راقيًا وثيق الصلة بالعلوم المقدسة مثل «الفَلَك»، وهو نظامُ الله الكونى الدقيق الذى عليه تقوم الزراعة، وبالتالى الحياة بأسرها. ولهذا أُقيمت فى مصر القديمة مدارسُ للرقص والموسيقى إلى جوار مدارس الفلك والطب والفلسفة، وكانت جميعًا ضمن إطار «العلوم المقدسة». إلى درجة أن مؤلف الموسيقى فى مصر القديمة كان يُلقَّبُ بـ«ابن الأبدية».

معذرةً عزيزى القارئ، فقد وددتُ أن أكتب مقدمة مختصرة عن تغلغل الفنون فى «الچين المصرى» لكى أعبرَ من خلالها إلى الفراشة المصرية «ماجدة صالح»، التى غادرتنا بالأمس، لكن المقدمة طالت! لأن الحديثَ عن عبقرية المصرى القديم فى صناعة الفنون لا تغطيه مئاتُ المجلدات.

غادرتنا الفراشةُ الجميلة «ماجدة صالح»، وطارت إلى مُستَقّر لها فى السماء، حيث الزهور والفراشات. رحلت أشهرُ باليرينا مصرية وعربية، صاحبة أول عرض باليه فى تاريخ مصر عام ١٩٦٦. رقصت مع فريق «البولشوى» الأشهر فى روسيا، وعلى خشبات عديد مسارح العالم، وكانت أولَ مدير لدار الأوبرا المصرية عام ١٩٨٧، وعميد المعهد العالى للباليه.

تقول الباليرينا «ماجدة صالح»: «لو لم أرقص، لكانت حياتى نصف حياة. اختاروا من فصلى خمس فتيات فقط، حظين بمنحة دراسية بأكاديمية (البولشوى للباليه) فى موسكو لكى نستكمل تدريباتنا هناك. عدنا إلى مصر فخورات بحصولنا على دبلومات البولشوى، وهى درجة علمية عالمية رفيعة فى فن الباليه. وغدونا جاهزات للرقص. وبالفعل رقصتُ عام ١٩٦٦ باليه (نافورة بختشى سراى) من تأليف الموسيقى الروسى (بوريس أسافييف)، المستوحَى من قصيدة (بوشكين).

ولمس الباليه قلوب الجمهور المصرى، ومن بينهم الزعيم (جمال عبدالناصر)». تقول «ماجدة صالح»: «حياة راقصة الباليه قصيرة للغاية. مثل الفراشات. لهذا كانت آخر رقصاتى باليه (جيزيل) مع فريق البولشوى وعلى مسرحه، وكان ذلك هو قمّة ما يمكن إنجازه فى دنيا الباليه، فقررتُ الاعتزال بعده.

وكان حريق دار الأوبرا المصرية فى أكتوبر ١٩٧١، وكانت بيتنا الحقيقى، سببًا أصيلًا فى قرار اعتزالى، فقد احترقت معها ملابسنا وجميع الآلات الموسيقية والديكور». لكن اعتزالها الباليه لم يوقف استمرار دعمها لمصر حتى بعد سفرها إلى نيويورك الأمريكية لقضاء بقية حياتها، وحتى لحظة وفاتها بالأمس. وهذا يفسر الحزن المصرى العام والاهتمام الإعلامى الكبير بخبر رحيلها.

«الباليه» فنٌّ رهيف لا يدخل عباءته إلا ذوو الرهافة الروحية، وليس وحسب الرشاقة الجسدية. أتذكر الآن مقطعَ فيديو عجيبًا لراقصة الباليه الإسبانية «مارتا جونزاليس» وهى جالسة على مقعدها المتحرك فى شيخوختها وقد أُصيبت بألزهايمر أنساها حتى مَن تكون. زارها صحفى إسبانى فى دار المُسِنّين، وحاول الحديث معها، لكنها بقيت صامتة لا تتكلم.

أدار الصحفى من هاتفه مقطوعة «بحيرة البجع»، التى رقصت عليها «مارتا» منذ نصف قرن. وهنا حدثت المعجزة، وبدأت الباليرينا القعيدة فى فرد ذراعيها فى الهواء كأنهما جناحان فى تناغم كامل مع نغمات الموسيقى، وأكملت رقصة البجعة على كرسيها المتحرك!. تصوروا؟!. كل ما عُرض أمامها من صور، وكل ما قيل لها من حكايات حول تاريخها الفنى العريض، لم يستَثِر ذاكرتَها ولم يُحرك فيها ساكنًا.

وحدها الموسيقى فعلت ما عجز عنه الأطباءُ والمستحثاتُ والحكايا. ونحن نتكلم عن موسيقى عظيم بحجم «تشايكوفسكى»، الذى استنطق الحديدَ والخشبَ فى الآلات الموسيقية بصوت الطبيعة وصدح العصافير وشلالات المياه وحفيف الشجر.

«ابقَ حيث الموسيقى، فالأشرارُ لا يغنّون». رحم الله فراشة الباليه المصرية الجميلة «ماجدة صالح».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«ماجدة صالح» الفراشةُ التى طارت «ماجدة صالح» الفراشةُ التى طارت



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon