حين زار مصرَ الفيلسوفُ الإغريقىُّ الشهير «أفلاطون»، فى القرن الرابع قبل الميلاد، لكى يستزيد من العلم فى «مكتبة الإسكندرية القديمة»، وصف الموسيقى المصرية بأنها «أرقى موسيقى فى العالم»، وقال إنها الأنسبُ لتكون «لحنَ جمهوريته الفاضلة»، ثم وجّه كلامَه إلى فلاسفة اليونان يوصيهم: «علّموا أولادَكم الفنونَ، ثم أغلقوا السجون» لأن الجريمةَ خصيمةُ الفنون الجميلة.
كلما ازدهر الفنُّ الرفيع، اضمحلّت الجريمةُ، وانتفت الحاجةُ إلى السجون. وأما فنُّ «الباليه»، فهو أرقى الفنون على الإطلاق، إذ يجمع بين «الموسيقى» دُرّة الفنون، وعبقرية الجسم البشرى فى أقوى وأرق وأرشق حالاته، والذى يتجلّى فيه جانبٌ من لانهائية عظمة الله فى خلقه. الباليه كان من ابتكارات المصرى القديم، كما خلّدته جدارياتُ الأسرة الخامسة فى المعابد المصرية.
ومنها «رقصة النجوم»، حيث تتحرك الراقصاتُ فى تشكيل فنىّ متناغم يرمز إلى بروج السماء الاثنى عشر، فقد وجد المصريون القدامى تشابهًا بين الأجرام السماوية فى تناغمها وانتظام حركتها، وبين النغمات الموسيقية من حيث تناغمها أو تنافرها. لهذا رمزوا إلى كل نغمة من النغمات السبع بما يماثلها من الكواكب بالرسم الهيروغليفى.
واعتقد المصريون بأن كل ساعة من ساعات اليوم تتناغم مع نغمة أو تجميع نغمات من تلك النغمات السبع. وبهذا كانت الموسيقى عند قدامى المصريين فنًّا راقيًا وثيق الصلة بالعلوم المقدسة مثل «الفَلَك»، وهو نظامُ الله الكونى الدقيق الذى عليه تقوم الزراعة، وبالتالى الحياة بأسرها. ولهذا أُقيمت فى مصر القديمة مدارسُ للرقص والموسيقى إلى جوار مدارس الفلك والطب والفلسفة، وكانت جميعًا ضمن إطار «العلوم المقدسة». إلى درجة أن مؤلف الموسيقى فى مصر القديمة كان يُلقَّبُ بـ«ابن الأبدية».
معذرةً عزيزى القارئ، فقد وددتُ أن أكتب مقدمة مختصرة عن تغلغل الفنون فى «الچين المصرى» لكى أعبرَ من خلالها إلى الفراشة المصرية «ماجدة صالح»، التى غادرتنا بالأمس، لكن المقدمة طالت! لأن الحديثَ عن عبقرية المصرى القديم فى صناعة الفنون لا تغطيه مئاتُ المجلدات.
غادرتنا الفراشةُ الجميلة «ماجدة صالح»، وطارت إلى مُستَقّر لها فى السماء، حيث الزهور والفراشات. رحلت أشهرُ باليرينا مصرية وعربية، صاحبة أول عرض باليه فى تاريخ مصر عام ١٩٦٦. رقصت مع فريق «البولشوى» الأشهر فى روسيا، وعلى خشبات عديد مسارح العالم، وكانت أولَ مدير لدار الأوبرا المصرية عام ١٩٨٧، وعميد المعهد العالى للباليه.
تقول الباليرينا «ماجدة صالح»: «لو لم أرقص، لكانت حياتى نصف حياة. اختاروا من فصلى خمس فتيات فقط، حظين بمنحة دراسية بأكاديمية (البولشوى للباليه) فى موسكو لكى نستكمل تدريباتنا هناك. عدنا إلى مصر فخورات بحصولنا على دبلومات البولشوى، وهى درجة علمية عالمية رفيعة فى فن الباليه. وغدونا جاهزات للرقص. وبالفعل رقصتُ عام ١٩٦٦ باليه (نافورة بختشى سراى) من تأليف الموسيقى الروسى (بوريس أسافييف)، المستوحَى من قصيدة (بوشكين).
ولمس الباليه قلوب الجمهور المصرى، ومن بينهم الزعيم (جمال عبدالناصر)». تقول «ماجدة صالح»: «حياة راقصة الباليه قصيرة للغاية. مثل الفراشات. لهذا كانت آخر رقصاتى باليه (جيزيل) مع فريق البولشوى وعلى مسرحه، وكان ذلك هو قمّة ما يمكن إنجازه فى دنيا الباليه، فقررتُ الاعتزال بعده.
وكان حريق دار الأوبرا المصرية فى أكتوبر ١٩٧١، وكانت بيتنا الحقيقى، سببًا أصيلًا فى قرار اعتزالى، فقد احترقت معها ملابسنا وجميع الآلات الموسيقية والديكور». لكن اعتزالها الباليه لم يوقف استمرار دعمها لمصر حتى بعد سفرها إلى نيويورك الأمريكية لقضاء بقية حياتها، وحتى لحظة وفاتها بالأمس. وهذا يفسر الحزن المصرى العام والاهتمام الإعلامى الكبير بخبر رحيلها.
«الباليه» فنٌّ رهيف لا يدخل عباءته إلا ذوو الرهافة الروحية، وليس وحسب الرشاقة الجسدية. أتذكر الآن مقطعَ فيديو عجيبًا لراقصة الباليه الإسبانية «مارتا جونزاليس» وهى جالسة على مقعدها المتحرك فى شيخوختها وقد أُصيبت بألزهايمر أنساها حتى مَن تكون. زارها صحفى إسبانى فى دار المُسِنّين، وحاول الحديث معها، لكنها بقيت صامتة لا تتكلم.
أدار الصحفى من هاتفه مقطوعة «بحيرة البجع»، التى رقصت عليها «مارتا» منذ نصف قرن. وهنا حدثت المعجزة، وبدأت الباليرينا القعيدة فى فرد ذراعيها فى الهواء كأنهما جناحان فى تناغم كامل مع نغمات الموسيقى، وأكملت رقصة البجعة على كرسيها المتحرك!. تصوروا؟!. كل ما عُرض أمامها من صور، وكل ما قيل لها من حكايات حول تاريخها الفنى العريض، لم يستَثِر ذاكرتَها ولم يُحرك فيها ساكنًا.
وحدها الموسيقى فعلت ما عجز عنه الأطباءُ والمستحثاتُ والحكايا. ونحن نتكلم عن موسيقى عظيم بحجم «تشايكوفسكى»، الذى استنطق الحديدَ والخشبَ فى الآلات الموسيقية بصوت الطبيعة وصدح العصافير وشلالات المياه وحفيف الشجر.
«ابقَ حيث الموسيقى، فالأشرارُ لا يغنّون». رحم الله فراشة الباليه المصرية الجميلة «ماجدة صالح».