بقلم - فاطمة ناعوت
حين أخبرنى الأستاذ «أحمد سامر» باختيار كتابى «حوار مع صديقى المتطرف» للمناقشة في صالون «علمانيون»، تمنيتُ لو كان قد اختار كتابًا آخر من إصداراتى، التي تتنوّع بين الشعر والترجمات والنقد الثقافى والأدبى، عطفًا على كتابين حول علاقة العمارة بالفنون الستة تحت مظلة ما بعد الحداثة، وكتابين عن «طيف التوحد» وتجربتى مع ابنى للخروج من شرنقة العزلة نحو براح الحياة.
لكن ما حيلتى، وقد اختار الكتابَ «الأصعبَ» في تجربتى؟!. ثمة حاجرٌ نفسى بينى وبين هذا الكتاب، رغم اعتزازى به، كونه الحائطَ الذي سجّل معاركى «غير المتكافئة» ضدّ جماعة الإخوان الإرهابية. «عدم التكافؤ» لأن سلاحى «الأوحد» هو «القلم الأعزل» أمام أسلحة التطرف التي هي: التكفير، هدر الدم، الاغتيال الأدبى والمعنوى، والملاحقات القضائية، التي أسفرت إحداها عن الحكم علىَّ بالسجن ثلاث سنوات، أواخر عام ٢٠١٣، لولا رحمة ربى ونزاهة القضاء المصرى الذي خفّف الحكم إلى «٦ أشهر مع وقف التنفيذ»، في جلسة المعارضة الاستئنافية برئاسة المستشار الجليل «حسين جهاد» مع نهاية عام ٢٠١٦، بعدما عشتُ ثلاثَ سنواتٍ من أقسى وأمَرّ أيام حياتى، منها ثمانية أشهر بالخارج، بعيدًا عن بيتى، وبعيدًا عن عينى ابنى «عمر»، قلبى النابض بالحياة.
وأما «الحاجز النفسى» مع كتابى، فبسبب الفترة الزمنية الصعبة التي كتبتُه فيها؛ وهى بالتحديد منذ «١٩ مارس ٢٠١١»، يوم «غزوة الصناديق»، وحتى عام ٢٠١٧، ومصرُ في أوج تصدّيها للإرهاب الإخوانى وسياسة «حرق الأرض» التي شنّتها الجماعةُ الإرهابية ضدَّ الوطن؛ ردًّا على إسقاطهم عن عرش مصر بفضل: «شعبٍ واعٍ» رفض حكمَ الإخوان، و«جيشٍ قوىّ» ساند إرادةَ الشعب الحرّة، و«فارسٍ جسور» اسمُه القائد «عبدالفتاح السيسى»، حمل روحَه على كفّه ليواجه الغولَ الإخوانى الأعمى حتى دحرَه، ثم راح يعيد بناء وطنٍ حاول الإخوان هدمَه وتصديع بِنيته مؤسساتٍ وشعبًا، جسدًا وعقلًا، روحًا وقلبًا. ولهذا فإن كتابى: «حوارٌ مع صديقى المتطرف» يعيد إلى ذاكرتى جميعَ المراراتِ التي عشتُها: ذاتيًّا وموضوعيًّا، على ثلاثة أصعدة. «ذاتيًّا» وأولًا: كـ«إنسانٍ» تعرّض للظلم بسبب عشقى لوطنى، وثانيًا كـ«أمٍّ» قتلها الاغترابُ قسرًا عن عيون أطفالها، ثم «موضوعيًّا» وثالثًا كـ«مواطنة» افترسها الرعبُ وهى تشهد وطنها يُفترَسُ بأنياب الغول الإخوانى الأعمى.
لهذا لم أسعَ لمناقشة هذا الكتاب منذ صدوره حتى الأمس، اللهم إلا ندوة وحيدة أقامها «معرضُ القاهرة الدولى للكتاب» ٢٠١٧، فور صدور الكتاب، تكلّم فيها المفكرُ والناقد الكبير الراحل د. «شاكر عبدالحميد»، وزير الثقافة الأسبق، وقدّم خلالها أطروحةً في غاية الجمال والاكتمال. منذئذ، لم أُقِم للكتاب ندوةً ولا حفل توقيع، وكأننى أريدُ نسيانَه!، بل حتى لم أتصفحه بعد طباعته، وظلَّ نسيًا منسيًّا في ركن معتم من زوايا بيتى. إلى درجة أننى حين بحثتُ عن نسخة منه استعدادًا لندوة الأمس، ظللتُ يومًا كاملًا أبحث عنه بين رفوف مكتبتى، حتى وجدتُ نسخة واحدة مازالت في غلافها البلاستيكى الشفاف لم يُفَضّ!، ولأن الكتاب قد نفد ورقيًّا، ولم أفكّر في إعادة طبعه، اضطررتُ إلى إرسال نسخة إلكترونية للصالون وللسادة المناقشين!.
وكان رائعًا أن يُناقش كتابى أمس الأول في صالون «علمانيون» الكاتبُ والسياسى والطبيب الجميل د. «محمود العلايلى»، الذي أدينُ بفضله في كسر الحاجز النفسى بينى وبين الكتاب وصالحنى عليه، لدرجة أننى أفكّر في إعادة طبعه!، إذْ أثناء الإنصات إلى شرحه وتشريحه للكتاب، نزعتُ الغلافَ البلاستيكى عن النسخة الوحيدة المتبقية، ورحتُ أتصفحه لأول مرة منذ صدوره قبل سنواتٍ سبع، فاكتشفتُ أن تذكّرَ المعارك والنِزالات، الهزائم والانتصارات، إشراقات الرجاء وجحيم الإخفاقات، ليس بالسوء الذي كنتُ أحسبُه!، بل هو تذكرةٌ بماضٍ تعِس علينا ألا نُعيده. اكتشفتُ أن بالكتاب شيئًا طيبًا، رغم أنه كُتبَ بمداد قلمٍ نازف يتوجّع. شىءٌ يقول: «أنا أحبُّ وطنى، إذن أنا موجود».
وكان إهداء كتابى إلى: «غاندى» و«جبران» و«مُحيى الدّين بن عربى» و«شمس الدين التبريزى» و«الوليد بن رُشد»؛ وغيرهم من رُسُل السّلام والمحبّة: أنتم آبائى الذين سِرتُ على دربِهم. والحقَّ الحقَّ أقولُ لكم: البراءةُ التي حاولتم غرسَ بذورها في أعماقِنا، نحنُ تركناها تموتُ، ويتسرّبُ رحيقُها من بين أصابعنا. فضحكت البغضاءُ.. وأخرجتْ لنا لسانَها ساخرةً تقول: إنّ جبرانَ ورفاقه، قد أخفقتْ نبتتُهم!.
ومن نُثار خواطرى:
■ ■ ■
(محاكمةُ القمح)
تقفُ سُنبلةٌ على بابِ بيتى. تحُولُ بينى وبين عتبة الدار التي أسافر إليها منذ دهور، حتى هدَّنى التعبُ. افتحى البابَ أيتُها السنبلةُ، فأنا لم أنَمْ منذ سنين!. في عينىَّ غَيمٌ كثيفٌ يريد أن يهطلَ كغيثٍ فوق زهور شرفتى العطشى؛ علّها تنبعثُ من موات. وفى قلبى جُرحٌ غائرٌ يبحث عن ضماداتٍ وأكاسيرَ توقفُ النزيفَ، فدعينى أدخلُ لأبحثَ في أدراج خزانتى عن ضمادةٍ لقلبى.