بقلم - فاطمة ناعوت
أسرة مصرية من الطبقة البرجوازية المتوسطة، في بدايات القرن الماضى، يجدُ أفرادها متعتهم بين صفحات الكتب القيمة المتراصة في المكتبة الأرابيسك، وفى أسطوانات الجراموفون الذي يخبئ في قدسه حناجرَ مصريةً فاتنة، وعلى نغمات البيانو تعزف عليه سيدةُ الأسرة وبناتُها، كعادة الأسر المصرية في ذلك العصر الذهبى. نتلصص على هذه الأسرة في لحظة مفصلية من تاريخ مصر، يوم وفاة الزعيم «سعد زغلول» في أغسطس ١٩٢٧، ثم نراقب الجيل الثانى والثالث والرابع والخامس لتلك الأسرة، وصولًا إلى سلسالها بعد مرور مائتى عام حين نصل إلى عام ٢١٢٧، وقد اختفت جميعُ القيم الجميلة التي تمتعت بها الأسرة في نسختها الأولى قبل قرنين. راحت العادات الطيبة تتلاشى شيئًا فشيئًا مع مرور الزمن ومع تغوّل التكنولوجيا التي بدلًا من أن تخدمَ الإنسانَ، كما ينبغى لها، أساء الإنسانُ استخدامها وصار خادمًا لها فمزقّت أوصالَ ترابطه مع أشقائه في الإنسانية، وحوّلت دفء الأسرة إلى صقيع قاسٍ؛ حتى صار الإنسانُ في القرن الثانى والعشرين يعيش في صناديق منعزلة وكأنها القبور، بعدما تحول هو ذاته إلى آلةٍ لا حياة فيها.
كعادته في كل عرض جديد يقدّمه لنا، يحرصُ الفنان الكبير «محمد صبحى» على تقديم الكوميديا بعدما تمرُّ على العقل فتضربه في منطقة الوعى، وتخزُ القلبَ بشوكة التأمل والوجع. تلك هي الخلطة السحرية التي يتميز بها مسرح صبحى. تضحكُ وعصفورُ القلب يغرد وجعًا. ولا عجب في هذا، فطائر مالك الحزين لا يطلق أجمل تغاريده، إلا نازفًا برصاص الرامى.
مسرحية «عيلة اتعمل لها بلوك» التي يقدّمها «محمد صبحى» الآن على «مسرح مدينة سنبل» في موسمها الجديد، والتى بدأ عرضها في ديسمبر ٢٠٢٢، مازالت ترفعُ لافتة «كامل العدد» في جميع العروض. تبدأ أحداثُ المسرحية مع الاحتلال الإنجليزى، وتنتهى بعد قرنين من الزمان مع احتلال الحياة الافتراضية التي مزّقت نسيجنا الإنسانى. تحمل جميع أعمال صبحى مذاقها الخاص وتجمع ما لا يجتمع: الضحك الفارس + الوجع الناجم من تأمل تشوهاتنا على صفحة مرآة ميدوزا التي تفضح عيوبنا أمام عيوننا علّنا نحاولُ إصلاحها، ونستعيد شيئًا من جمالنا الغابر الذي قتلناه بأيدينا ولصالح عدو توقف عن قتلنا بالرصاص والقنابل، حينما وجد طرائقَ أسهل وأرخص للاغتيال. أن نقتل أنفسَنا بأنفسنا حين نقتل القيم والأخلاق والدفء الأسرى والتضامَّ والتراحم الذي أوصانا اللهُ به في جميع رسالاته. شاهدنا العرض المسرحى الفاتن غارقين في الضحك، وقلوبنا تنعى خصالنا الحلوة التي عملنا لها «بلوك»، مع مرور الزمن. يقدّم صبحى في العرض خمس شخصيات مختلفة، لكل شخصية طباعها وتكوينها النفسى والشكلى المختلف. تشاركه البطولة الفنانة «وفاء صادق» وعدد من أعضاء فرقة «استوديو الممثل»، منهم: كمال عطية، مصطفى يوسف، محمد يوسف، محمد سعيد، رحاب حسين، داليا حسن، منة طارق، ليلى فوزى، محمود أبوهيبة، محمد شوقى طنطاوى، أنجيليكا أيمن، مايكل وليم، لمياء عرابى، حلمى جلال الدين، داليا نبيل، محمد عبدالمعطى، وليد هانى والطفلان عبدالرحمن محمود، ومريم شريف. واستعان صبحى بسينوغرافيا المسرح لعرض مشاهد حيّة من تاريخ مصر في لحظات تاريخية مثل يوم وفاة الزعيم «سعد زغلول»، وجنازة الزعيم «جمال عبدالناصر»، واستشهاد الرئيس «محمد أنور السادات»، مع ديكور موحٍ من تصميم «محمد الغرباوى»، وأغانٍ جميلة كتبها الشاعر «عبدالله حسن»، من موسيقى وألحان «شريف حمدان».
المايسترو «محمد صبحى»، كما يطيبُ لى أن أطلق عليه، كونه أستاذ وأسطى المسرح المصرى والعربى المعاصر، صاحبُ مسرح «رسالىّ ورسولىّ»، فالكوميديا دون «رسالة» حقيقية تغدو عرضًا هزليًّا وظيفته إضحاكُ الناس وإلهاؤهم عن القضايا التي تضرب خِصر المجتمع. والكوميديان إن لم يكن «رسولًا» يحملُ رسالةً جادّة، يغدو مجرد مهرّج يُخدِّرُ الناس بالنكات والقفشات لينسوا همومهم ومشاكلهم، بدل أن يواجهوها ويعالجوها. علّمنا المسرحُ القومى العظيم أن المسرح مُعلّمٌ لا يقلّ أثرًا عن المدرسة والجامعة. المسرحُ الحقيقى مدرسةٌ خطيرة نتعلم عليها ما فاتنا أن نتعلمه على مقاعد المدارس. والمسرحُ الكوميدى الرسولى «صعبٌ طويلٌ سُلّمُه»، لا يرتقيه إلا مَن يعلمه. ذاك أن المعادلة الصعبة هي الإضحاك مع إعمال العقل من أجل تشخيص المشكلات ثم وضع خطة لعلاجها بالعقل والعمل. هذا ما تعلّمناه من مسرح المايسترو «محمد صبحى»، على مدى تاريخه الطويل المحترم، منذ قدّم «هاملت» على مسرح الجامعة، مرورًا بتجربته الثمينة الثرية مع الراحل العظيم «لينين الرملى»، ثم في مرحلة إحيائه تراثنا المسرحى الجميل في تجربة «سكة السلامة»، و«لعبة الست»، وكذلك في العرض الساحر «كارمن»، الذي قدّم خلاله «أوبرا كارمن» بتوليفة مصرية غير ما قدّم «بيزيه». ومازلتُ أنتظرُ وعده لى بتقديم مسرحية «ملك سيام»، التي انشغل عنها طويلًا. والحقّ أن الحديث عن مسرح صبحى يحتاج إلى ألف مقال.