توقيت القاهرة المحلي 10:14:42 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تشويهُ حائطٍ.. بكلماتٍ عظيمة!

  مصر اليوم -

تشويهُ حائطٍ بكلماتٍ عظيمة

بقلم - فاطمة ناعوت

كان بحرُ الإسكندرية شاهدًا على استشهاد رجل مسالم يقول: «أحبّوا أعداءَكم، باركوا لاعنِيكم، أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأَجْلِ الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم». كان الأبُ الكاهنُ «أرسانيوس وديد» جالسًا على ضفاف البحر مع تلاميذه يعلّمهم درسَ المحبة.

وكان البحرُ يُنصت معهم. ولما انفضَّ الجمعُ وذهب التلاميذُ كلٌّ فى طريق، تاركين أباهم الروحى جالسًا إلى البحر يُناجيه وحيدًا، جاء مأفونٌ متطرفٌ مريضُ القلب وذبح القسَّ المسالمَ! وفى التحقيقات ادّعى المجرمُ الجنونَ والخللَ العقلى! لكن النيابة العامة أثبتت كذبَه وأكدت سلامة قواه العقلية التى دبّرت ونفذت جريمة القتل العمد.

لجأ الإرهابىّ المجرمُ إلى التبرير «المحفوظ المُعلَّب» الذى تعفن من طول حفظه فى علبته الصدئة: «القاتلُ مختلٌّ عقليًّا!»، لكنه أغفل أن العقل الجمعى فضلا عن جلال القانون والسادة المحققين العدول، لم يعودوا يعتمدون تلك الحُجّة المستهلكة البلهاء.

لأن أى طفلٍ سوف يتساءل: «كيف للمختلّ عقلا أن يميّز المسيحىّ ليستهدفه دون غيره؟!»، وكيف للمختلّ أن يشترى سكينًا ويُحسنَ إخفاءها عن العيون حتى يتمكن من طريدته فيُجهِزَ عليها، ثم يحاولُ الفرار؟! الجريمةُ، أيةُ جريمة فضلا عن أبشع الجرائم وهى القتل مع سبق الإصرار والترصّد، تتطلّب عقلا يقظًا ودُربةً حركية وتوافق بصرى عضلى، لا يمتلكها مختلٌّ عقلىّ». رحم اللهُ الشهيدَ الأب «أرسانيوس وديد» وننتظرُ القصاصَ من قاتله.

على واجهة عمارة قديمة فى حى عريق، قرأتُ العبارةُ التالية: (لا أعرف خطيئة أعظم من اضطهاد برىء باسم الله). واضح أن كاتبَ العبارة رفيعُ الثقافة، ليس فقط بسبب الفلسفة العميقة فى الجدارية، بل كذلك فى انعدام الأخطاء اللغوية فيها. فلم يخلط الكاتبُ بين همزات الوصل وهمزات القطع كما يفعل كثيرون من الناطقين بالعربية، ولم يضعِ الهمزةَ فى كلمة «برىء» على الياء كما يفعل كثيرون خطأً، ولا وضع همزة تحت حرف الألف فى كلمتى «باسم، اضطهاد» كما يخطئُ كثيرون. ولم ينسَ النقطتين فوق التاء المربوطة فى «خطيئة» ولا تحت الياء فى «بريء».

حتى الشدّة على اللام الوسطى فى لفظة الجلالة كتبها رغم استخدامه فرشاة غليظة للكتابة المتعجلة على حائط، كما يفعل الثوارُ حين يرسمون الجداريات على واجهات العمارات فى الشوارع والميادين. نادرًا ما تصادفنى عبارةٌ عابرة كتبها شخصٌ بخط عشوائى بهذا الانضباط اللغوى الجميل. صادفتنى الصورةُ فنشرتُها على صفحتى مع هذا التعليق: (تشويه حائط.. بكلمات عظيمة!!! الحائطُ يُغسل ويُرمَّم ويُعاد طلاؤه، لكن الروحَ إن تشوّهت ماتت، ولا يُجدى معها ترميم أو طلاء). تلطّخ الحائطُ بالطلاء، لكنه تحول من جدار صامت إلى صوتٍ يصرخ فى البرية.

ليتنى أعثر على كاتب العبارة لأقفَ على التجربة الصعبة التى ألهمته هذه الكلمات التى لخّصت مأساة الجنس البشرى منذ بدء الخليقة وحتى تستنيرَ الإنسانيةُ بأسرها ونخرج من كهف ظلم الإنسان للإنسان باسم الدين، والتحدث نيابة عن الله حاشاه، من أجل التكبّر والتجبّر على الناس. لا شكَّ أن كاتب الجدارية قد مرّ بمحنة هائلة جعلته يخطُّ وجعَه على جدار بيت صادفه فى طريق الألم.

صدقتِ العبارةُ وصدق قائلُها. ليس من خطيئة أبشع من اضطهاد إنسان وظلمه. وتصير البشاعةُ فى منتهاها حين تُمارس باسم الله الرحمن الرحيم، حاشاه وتعالى علّوًا كبيرًا، هو المنزّه عن الظلم. يقول اللهُ تعالى فى حديثه القُدسى: «يا عبادى إنّى حرمتُ الظلمَ على نفسى وجعلتُه بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادى، كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدونى أُهدِكم. يا عبادى كلكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعمونى أطعمكم. يا عبادى كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسونى أكسكم. يا عبادى، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعا، فاستغفرونى أغفر لكم. يا عبادى، إنكم لن تبلغوا ضُرّى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى. يا عبادى، لو أن أولَّكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك فى مُلكى شيئا.

يا عبادى لو أن أولَّكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقُص ذلك من مُلكى شيئا. يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه، ما نقُص ذلك مما عندى إلا كما ينقُصُ المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادى إنما هى أعمالُكم أُحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». صدق الُله العظيم.

اللهم ندعوكَ أن نرتقى ونعلو ونتحضّرَ، ونحبَّ بعضُنا بعضًا. «الدينُ لله والوطن لجميع أبناء الوطن».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تشويهُ حائطٍ بكلماتٍ عظيمة تشويهُ حائطٍ بكلماتٍ عظيمة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon