قبل يومين، كنتُ فى مشوار فى أحد شوارع حى الزيتون، وشاهدتُ شبكةً من الخيوط معلّقة بها ورقات ملوّنة مقصوصة بالتساوى ومفرّغة بأشكال هندسية مختلفة، وبعض الأطفال والصِّبية من أعمار مختلفة يحاولون رفع شبكة الخيوط تلك بين شرفات الشارع.
إنه شهرُ رمضان الكريم، والأيامُ المبهجة التى تسبقه حيث يتبارى أطفالُ كل شارع فى تزيينه بالأضواء والفوانيس والأهلّة استقبالًا وتحيةً للشهر الكريم الذى يجمع المصريين كافة على المحبة والتوادّ والتراحم وموائد الإفطار والسحور وصلوات التراويح وجلسات السمر. المصريون ينتظرون هذا الشهرَ الطيب لأنه لا يشبه بقية الشهور، ولأن مذاقَ رمضانَ فى مصر الجميلة لا يشبهه رمضان فى أى بلد آخر من بلاد الله.
كنتُ دائمًا أتباهى أمام أصدقائى من الأدباء والأديبات العربيات بأن شهر رمضانَ فى مصر لا شبيه له فى سائر بلدان العالم، وأن مَن لم يحضر شطرًا من رمضان فى مصر، فقد فاته الشىءُ الكثير.
شهر لا يشبه أىّ شهر آخر يمرُّ على مصر، ولا يشبهه أى رمضانَ آخر يجوبُ العالم. فهذا الشهرُ يخرج عن كونه شهرًا دينيًّا، ليتحوَّل إلى سيمفونية احتفال بالحياة. يتبارى فيه الأطفالُ والكبار، وما بينهما من أعمار، ليجعلوا منه كونشرتو شعبيًّا يعزف الأوركسترا فيه سونتات فرح وولائم وزينات وأنوار وألوان وتزاور وصلات رحم وسهرات لا يعرفها إلا رمضان.
لا تكادُ تعرف فيه المسلمَ عن غير المسلم. لأن المصريين على كافة عقائدهم وطبقاتهم المادية والاجتماعية والتعليمية يتسابقون فى رسم الفرح على الوجوه وعلى جدران الأبنية وسماوات الشوارع والأزقة والميادين. يتفق المسلمون وغيرُ المسلمين على أن لرمضانَ فى مصرَ نكهةً مميزة لا مثيلَ لها. ما السبب؟ إنه سرّ المصريين الخاص منذ آلاف السنين وقبل نزول الرسالات.
تعويذةٌ تصبغُ الأشياءَ بلون مصرَ، وتسبغُ على الأيام طعمَ النيل. إنها فرادةُ المصريين فى صناعة الفرح، وامتلاكهم مَلَكة «الاحتفال». قبل عامين زارنا رمضانُ ونحن فى بيوتنا لا نبرحها بسبب جائحة كورونا. وهذا العام يزورنا رمضان تحت موجة غلاء عالمية طاحنة، سوف نقاومها بإذن الله بالوعى والحكمة والاستغناء عن غير الضرورى ومقاومة الهدر والفوضى.
المناسباتُ الدينية عندنا هى مناسبةٌ للحياة. فتلتقى السماءُ والأرضُ فى قطعة موسيقية بديعة، ليست تشبه المقطوعاتِ السماويةَ الخالصة، ولا المعزوفات الأرضية الخالصة. مزيجٌ فريد. فقط فى مصر يأتيك من السماء صوتُ «سيد النقشبندى» عند الفجر يشدو: «قُلْ اِدعُ اللهَ، أو اِدعُ الرحمنَ، أيًّا ما تدعوه فله الأسماءُ الحُسنى»، ثم يأتيك عند المغرب شجوُ «محمد رفعت» مؤذّنًا؛ فلا تُخطئُ صوتَه بين ألف صوت عداه.
فى «رمضانَ المصرى»، تجد الشوارعَ غارقةً فى اللون والضوء والصَّخب. فكأنك فى عيد قوامُه ثلاثون ليلةً متّصلات، ليغدو أطولَ عيد فى التاريخ. الناسُ ساهرون لا يعرفون النومَ فى ليالى رمضان. يتجاوزون الفجرَ، وينتظرون حتى ينسلَّ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود. هو الشهرُ الذى لن تميّز فيه المسلمَ من المسيحى. فالكلُّ يحتفل كأنه شهرٌ مصرىٌّ، وليس دينيًّا وحسب.
المسيحى يصوم مع المسلم محبةً؛ لأن إنجيله علّمه ألا يليق أن يشبعَ وجارُه جائع. وإن باغتنا أذانُ المغرب ونحن فى الطريق، سنجد الصِّبيةَ والصبايا يستوقفوننا على رؤوس الشوارع وتقاطعات الميادين مبتسمين يلوّحون لنا بالخير. يفتح واحدُنا نافذة سيارته ويتناول كأسَ العصير وحبّاتِ التمر لكى «يكسر صيامه». ويحدثُ أن يقول أحدُهم للشباب حاملى التمر والماء: (شكرًا، أنا مسيحى!)، فيُفاجأ بأجمل ردٍّ: (وإحنا كمان مسيحيين، كل سنة وأنت طيب!). يحدث فقط فى مصر أن يقفَ شبابٌ مسيحيّون ليسقوا ظِماء الصائمين المسلمين، زارهم المغربُ وهم خارج بيوتهم.
ونحن صغار، كنا نجمع قروشنا ونركض إلى المكتبة لنشترى الورقَ الملوّن والصمغ ومقصّات الورق البلاستيكية، بعدما نكون قد جمعنا عصوات الخشب طوال العام وخبأناها تحت آسرّتنا، ثم نسهر مع أطفال الحى لنصنع زينة رمضان والفانوس الكبير الذى سيُعلّق فى منتصف شارعنا. يتبارى أطفالُ كل شارع ليكون فانوسُهم أكبرَ، وزينتُهم أجملَ وأكثفَ لونًا. لم ننتبه إلا حين كبرنا إلى أن نصفَ أطفال شارعنا من صانعى زينة رمضان كانوا مسيحيين.
رمضانُ شهرُ الجميع، وبهجةُ الجميع، وصلاةُ الجميع لإله واحد، ربّ الكون الشاسع؛ نعبده جميعًا، كلٌّ عبر رؤيته. نحبُّ اللهَ، كما أحبَّنا اللهُ وخلقنا وجعلنا شعوبًا وقبائلَ لنتعارفَ ونتحابّ ونتآخى.
يأتى رمضانُ كلَّ عامٍ ليؤكد أن دمَ المصريين واحدٌ، وعِرقنا العريقَ واحد، ونسيجَنا الصافى واحد، لا يعبثُ به العابثون. كل سنة وأنتم طيبون. كلُّ سنة ومصرُ العظيمةُ عظيمةٌ.
«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يحبُّ الوطن»