توقيت القاهرة المحلي 21:41:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

زيارةٌ واحدة.. كل شهر!

  مصر اليوم -

زيارةٌ واحدة كل شهر

فاطمة ناعوت
بقلم - فاطمة ناعوت

لم ينتبه لموت أمّه فى الغرفة المجاورة. استيقظ مبكرًا كعادته وغسل أسنانَه وأخذ دوش الصباح. اندهش قليلا لأنه لم يسمع صوتَ أمّه آتيًا من بعيد بمجرد أن تشعرَ باستيقاظه فتُغنّى له: «يا صباح الخير ياللى معانا، الكروان غنّى وصحّانا، والشمس أهى طالعة فى سماها، ياللا معاها يا عمورى!»، ومع الكلمة الأخيرة تحتضنه وتدغدغه، فيضحك ويكركع وهو يغنى معها. لم تأتِ له بكوب حليب اللوز، ثم كأس الأدوية مثلما تنصُّ طقوسُ الصباح!.. الطقوسُ الثابتة فى هذا البيت الصغير خطٌّ أحمر، كسرُها جريمةٌ لا تحدث! فكيف كسرت أمّى طقوسَ الصباح؟!. فكّر قليلًا لكنه لم يعبأ، ولا ذهب إلى غرفة أمّه يتفقّدها. دخل غرفة المكتبة وبدأ تمارين الصباح. ولم تظهر أمُّه لتشجعه كالمعتاد وتهتف: «عاش يا عمر يا بطل!». جلس إلى البيانو وراح يعزف مقطوعة «أنشودة الفرح» لـ بيتهوفن، تلك التى يبدأ بها يومَه فيما تعدُّ أمُّه إفطاره: [مــى مى فا صول | صول فا مى رى | دو دو رى مى | مــى رى رى | مـــى | مى فا صول | صول فا مى ري| دو دو رى مى |رـــى دو دو]. إن كسرت أمُّه طقوسَ اليوم وأطالت النومَ هكذا، فلن يكسرها هو. الروتين مقدسٌ!. راح يفكر هذه الأفكار وهو يتعمد أن يخبط النغمات الأخيرة من كل نوتة على نحو صاخب، حتى تصحوَ أمُّه من النوم وتأتى إليه!!.. منذ متى ونومُ أمه ثقيلٌ هكذا؟! حتى لو غفلت مع الفجر فإنها تصحو مبكرًا جدًّا!. سوف يعيد عزف الأنشودة بصوت أعلى [ مــى مى فااا صول صووول فا مى ريييييي]!، ولم تأتِ أمُّه على عزفه كالمعتاد لتغمرَه من ظهره وتقول: (الله يا عمورى! أحلى موسيقى فى الدنيا! أنشودة الفرح يا فرحة عمرى كله!).. لا بأس! لا شىءَ يجبره على تغيير الطقوس المقدسة، وإن نامت أمُّه هكذا طويلا. شغّل التليفزيونَ على الصوت الصامت وجلس على مقعده فى غرفة المعيشة ينتظر. وحين مرت الساعاتُ وتوهّجت شمسُ الظهيرة، ثم مالتْ دون أن تنادى عليه أمُّه لطعام الإفطار أو الغداء، الذى تعدُّه بنفسها، اندهش أكثر! قرر الذهاب إلى غرفتها، فوجدها راقدةً على سريرها مفتوحة العينين، ولم تلتفت نحوه تتهلَّل وتُغنّى له وتناديه بكل أسماء التدليل المشتقة من اسمه، كما تفعل دائمًا، إن مرّ بغرفتها التى لا تغلقُ بابَها أبدًا! ظنَّ أنها نائمة. وقف أمام سريرها برهةً، وراح ينظر فى عينيها وهو يبتسم، لعلّها تنظر نحوه. امتدت البُرهةُ دقائقَ طوالا، اقتربت من كسور الساعة، وهو واقفٌ أمام سريرها صامتًا يتأملُ عينيها الشاخصتين نحو سقف الغرفة! ولمّا لم تتحرك أمّه، ضحك ضحكته الطفولية، وخرج من غرفتها إلى الشرفة وجلس على الأرجوحة يُغنّى. بعد نصف ساعة، دخل غرفته ليجلب الألوان ودفتر الرسم، وفى طريقه إلى غرفة المعيشة، مرّ بغرفة أمّه، واختلس نظرةً إلى جسدها المُسجّى على سريرها دون حراك. أكمل طريقَه إلى لوحة الرسم، وراح يرسم. ولم تأت أمُّه لتتأمل اللوحة، وتهتف: «الله يا عمر.. تُحفة». ترك اللوحة، وفكّر: «كده فيه حاجة غلط!»، ذهب إلى غرفتها وهمس بصوت خفيض: «يا ماما.. قوم اعملْ فطار.. عمر جعان!»، وانتظر برهة، وحين لم ترد أمُّه، ضحك، وذهب ليكملَ الرسم.


انتصف النهارُ وقرصَه الجوعُ، فذهب إلى غرفتها من جديد، وراح يلمس كتفها برفق بطرف إصبعه، ويهمسُ بصوتٍ خفيض: «عمر جعان أوى جدًّا.. قوم يا ماما اعمل أكل!». ذهب إلى المطبخ وفتح الثلاجة، فوجد تورتة عيد الميلاد. اليوم عيد ميلاده الثلاثون.. ولكنه حين يُسأل عن عمره يقول: «١٢ سنة.». ودائمًا تُصلّحُ له أمُّه: «٢٦- ٢٧- ٢٨- ٢٩»، فيكرّرُ وراءها الإجابة الصحيحة. قطع شريحةً من التورتة، وراح يأكل سعيدًا لعدم وجود أمّه تمنعه برفق وتهمسُ مبتسمةً: «السكر مُضِرّ، الدقيق مُضِرّ، اللبن مُضر!»، ثم تميل على مَن حولنا من الغرباء، وتهمسُ بصوت خفيض، وهى تظن أننى لا أسمعُها: (معلش.. عمر مينفعش ياخد جلوتين ولا كازيين ولا سكر، عشان هو على «طيف التوحد»). «عمر» يعرفُ السكر، لكنه لا يعرفُ مَن هما الجلوتين والكازيين اللذين تبغضهما أمى وتمنعهما من دخول البيت. ولا يعرفُ ما «طيف التوحد» الذى يقترن اسمُه باسمِه منذ طفولته، ولكنه يعرف أنهم أعداء يكرهون «عمر» ويريدون قتله.

كانت الأمُّ فى تلك الأثناء تراقبُ «عمر» يدورُ بين الغرف، ويذهب إلى جثمانها بين الحين والحين صارخًا: «عمر جعان بقى!!! قوم يا ماما!»، كانت تبكى وتركضُ كالمجنونة بين الأبواب البيضاء، تطرقُ هذا البابَ، ويُصكُّ فى وجهها هذا البابُ. وحين أخفقت جميعُ محاولاتها، تجاسرت وطرقت البابَ العلوىّ الذى لا يطرقُه إلا العارفون. ولدهشتها فُتح البابُ ولم تنتظر أن يُسمح لها بالدخول، بل ركضت نحو العرش العظيم وسجدت تحت قدمى الجليل، ونظرت إلى بركة الماء التى صنعتها دموعُها، فخجلت وراحت تجفِّفُها بطرف ثوبها، حتى أتاها صوتُ الرحمن يحثُّها على الكلام. همست: «أيها الجليلُ.. اسمح لى بزيارة واحدة لابنى كل شهر، دون أن يرانى ولا ألمسه، أخبزُ خبزَه وأعدُّ طعامه وأضىء شموعه؛ حتى يعتادَ غيابى، وتقضى فيه أمرًا!».

عند المساء، كان «عمر» يجلس فى غرفة المعيشة وحيدًا.. وفجأةً، ابتسم حين أحسّ بطيف أمّه فى البيت، ثم بدأ يسمع أصواتًا آتية من المطبخ، فعرف أنها تعدُّ له العشاء

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زيارةٌ واحدة كل شهر زيارةٌ واحدة كل شهر



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:11 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
  مصر اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 11:23 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 18:47 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيفا" يكشف أسباب ترشيح ميسي لجائزة "الأفضل"

GMT 11:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تتفاوض مع شركات أجنبية بشأن صفقة غاز مسال طويلة الأجل

GMT 13:21 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

الأهلي يتعاقد مع "فلافيو" كوم حمادة 5 سنوات

GMT 15:07 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 07:34 2018 الأربعاء ,18 تموز / يوليو

شيخ الأزهر يستقبل توني بلير ويعرب عن دعمه لمصر

GMT 06:35 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خروج فتحي وسامي عن قائمة بيراميدز أمام سموحة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon