بقلم - فاطمة ناعوت
فى مثل هذه الأيام على أبواب «الربيع»، غادرنا شيخان جليلان، تاركيْن لنا أرضَ «الخريف». ربما لأن كلا منهما كان «ربيعًا» فى حقله، وبردًا وسلامًا على أبناء وطنه. فى هذا الأسبوع من شهر مارس نتذكر رمزين عظيمين جمع بينهما ربيعُ الرحيل، مثلما جمعت بينهما الوطنيةُ والحكمةُ والنبلُ والتحضّر، فكانا ويظلان رمزين دينيين وطنيين خالدين فى ذاكرة مصر والمصريين. يوم ١٠ مارس ٢٠١٠، غادرنا الشيخُ الدكتور «محمد سيد طنطاوى»، الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، وأستاذ أصول الدين. ويوم ١٧ مارس ٢٠١٢، غادرنا قداسةُ البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية.
أتذكّرُ خبرًا قديمًا قرأته فى «دوتش ڤيله» الألمانية يقول إن أحد الآباء الكاثوليك فى كنيسة ألمانية أطلق حملة تبرعات بين روّاد الكنيسة للمساهمة فى بناء مسجد بمدينة كولونيا بألمانيا. وقف القسُّ الألمانى «فرانس مويرر» أمام مذبح كنيسة سان تيودور، يحثُّ المُصلين الكاثوليك على تقديم هدية رمزية لأشقائهم المسلمين الذين يعيشون معهم فى المدينة ويبلغ عددهم حوالى ٦٥٠٠٠ مسلم. وخرجت تصميماتٌ هندسية بديعة لمسجد شاهق سيكون الأكبر والأبهى فى ألمانيا، تسمو مئذنته نحو السماء بارتفاع ٥٥ مترًا. واستجاب الألمانُ وبدأت حملة تبرّعات موسّعة. لكن حادثًا إرهابيًّا خسيسًا أجهض الحلم الطيب. الشرُّ يقتلُ الخير.
وتذكَّرتُ مصريًّا نبيلا كان على نفس القدر من تحضّر ذلك القسّ الألمانى. عام ٢٠٠٩ أقرَّ الإمام الأكبر د. «محمد سيد طنطاوى»، بجواز تبرّع المسلم بالمال لبناء كنيسة، لأن الكنيسةَ دارٌ للعبادة لها قداستها واحترامها وطهارتها، وأكّد أن الشرع لا يمنع المسلمَ من بناء كنيسة. ثم دعا اللهَ أن يرزق «المنحرفين» فكريًّا الهدى والمحبة.
ونتذكّرُ مصريًّا نبيلا آخر هو قداسة البابا شنودة الذى قال: «أبذلُ عمرى من أجل مصرى مسلم، مثلما أبذلُه لأجل مصرى مسيحى. وإن كانت أمريكا ستحمى كنائسنا، فلتحترق الكنائسُ، ولتحيا مصرُ حرّةً. ولن أسافر إلى القدس حاجًّا، إلا ويدى فى يد شيخ الأزهر، بعدما تتحرر». كان البابا شنودة رحمه الله رجلاً وطنيًّا عاشقًا لمصر شأن جميع باباوات مصر، وهذه نعمةٌ من نعم الله علينا. أحب البابا شنودة بلاده وتحمّل الكثيرَ من أجل استقرارها ووحدة صفّها. ترفّع عن الصغارات والدنايا. فلم يغضب يومًا من بذاءات يُطلقها فى حقّه متطرفون فارغو العقل فقيرو الروح. وكان يمنع شعبه من الغضب لأبيهم الروحى ورمزهم الدينى. حتى حين كان ينفجرُ الأمرُ بإحراق كنيسة أو قتل مسيحيين كان يردد على مسامع شعبه قولته: «كلّه للخير، مسيرها تنتهى، ربنا موجود». ثم يُصلى للمسيئين طالبًا من الله ألا يُقيم عليهم خطاياهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. حملَ مصرَ فى قلبه لأنه أجاد قراءتها خلال دراسته تاريخَ مصرَ الفرعونى والقبطى والإسلامى، ثم التاريخ الحديث. وكان يحثُّ أبناءه على دراسة التاريخ قائلاً إن المعرفة لا تكتمل بغير الخبرة. والخبرةُ لا تتكوّن من تجارب الإنسان وحسب، بل من تجارب الآخرين كذلك. وهو ما يحدث بتأمل التاريخ بما يحمل من خبرات السالفين، مردّدًا البيت الشعرى: «مَن وعى التاريخَ فى صدره/ أضافَ أعمارًا إلى عمره». عمل البابا شنودة على بناء كنائسَ قبطية للمصريين فى المهجر، حتى لا تذوبَ هُويتُهم المصريةُ القبطية فى هويات مهاجرهم الغربية التى يعيشون فيها. فكأنما بهذا يمدُّ خيوطَ المواطَنة بين أبنائه وبين وطنهم مصر، فلا يبرحونها مهما طالت تلك الخيوط وتشعّبت وتشتتت فى أرجاء الأرض. وحينما تعالت بعضُ الأصوات المتطرفة بدعوة أمريكا لحماية الكنائس المصرية التى عمل الإخوان والإرهابيون على إحراقها، قال البابا شنودة: «إن كانت أمريكا ستحمى الكنائس فى مصرَ، فليَمُت الأقباطُ وتحيا مصر». لم يعش قداسةُ البابا شنودة ليشهد لحظة طيبة مَنَّ اللهُ فيها علينا برئيس متحضر يحمى الكنائسَ المصرية ويُشيّدها مثلما يشيّد مساجدنا فى «الجمهورية الجديدة»، لكننى على ثقة من أنه يرى «مصر اليوم» ويطيبُ قلبُه بما صنع الرئيس السيسى.
الشيخ طنطاوى والبابا شنودة كلاهما كان بشوشَ الوجه بتلك النظرة الطيبة المطمئنة التى تشى بقلب يحمل نور الله، وعينين تشرق فيهما روحُ السلام. سُرَّ مَن نظرَ إليهما. كلاهما كان يكره العنفَ والدماء، ويدعو للتآخى والمحبة بين الناس كافة. كلاهما كان حلو اللسان، لم نسمع من أيهما كلمةً جارحة، مما تعجُّ به ألسنُ أدعياء الدين. إلى جوار رسالة كلّ منهما الدعوية، كان مشروعُ كلٍّ منهما يكرِّس الوحدةَ الوطنية ونبذ الفتن العقدية والطائفية، حمانا اللهُ من ويلاتها. رحمَ اللهُ الشيخين الجليلين وطيّب ذكراهما. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».