بقلم - فاطمة ناعوت
واحدةٌ من عاداتنا الرمضانية الجميلة كلَّ عام، أن نكسرَ صيامَنا على مائدة الكنيسة الإنجيلية فى مدينة نصر على صوت الشيخ «محمد رفعت» يؤذن لصلاة المغرب. لم يُخلف قادةُ الطائفة الإنجيلية عهدهم بدعوتنا إلى مائدتهم كل رمضان، ولم نُخلف أبدًا تلبية الدعوة الكريمة بكل فرح. شكرًا للصديق القسّ د. «عزت شاكر» على الدعوة الطيبة. مشهدٌ مبهجٌ تحتشدُ فيه مصرُ بجميع أطيافها على مائدة واحدة تُقامُ على شرف حبّ الوطن، وشرف التضامّ على قلب الإنسانية، وعلى قداسة الإيمان بإله واحد، نصبو إلى نوره جميعًا، كلٌّ عبر معتقده ووفق إيمانه. نسمعُ أذان المغرب فيصطفُّ مشايخُ الأزهر الشريف مع قامات الفكر والسياسة والإعلام فى ساحة الكنيسة، يولّون وجوههم شطر القِبلة ويقيمون الصلاة. ثم نأكل لقمة هنيّة مع أشقائنا المسيحيين بجميع أطيافهم على «مائدة المحبة».
أنظرُ حولى لمن يشاركنى مائدتى فلا أميّز أيّنا مسلمٌ وأيّنا مسيحىّ. نحن «مصريون» وكفى. نحن «إنسانٌ» وكفى. مظلّةُ الوطن الكريم تجمعنا وسماءُ الإنسانية تُظلّلنا وعينُ الله ترعى جمعنا الطيب، وتلوّح لنا شمسُ الغروب قبل رحيلها تلويحةَ الرضا والسلام، بعد أن ترجو لنا صومًا مقبولا وإفطارًا طيبًا. وفى كلّ قلبٍ نجوى لرب العالمين الذى يتوجه إليه سبعة مليارات إنسان يعمّرون هذه الأرض، كلٌّ حسب ميراثه وقلبه وعقله. تلك خطّة الله لبنى الإنسان. أن نتعدّد ونتعارفَ ونتآلف ونتحابَّ، نختلفٌ ولا نتخالف. الاختلافُ ثراءٌ والتخالفُ ويلٌ وفناء. «ولو شاءَ اللهُ لجعلكم أمّةً واحدة». فكيف نشاءُ، نحن البشر الضعفاء، غير ما يشاءُ اللهُ تعالى، فيصرُّ دعيٌّ مراهقُ العقل أن يفكرَ الآخرُ كما يفكّر هو، ويعتنقُ سواه ما يعتنق هو، وإلا السيف والمغايظة والظلم؟!.
لا أشعر بالدفء فى إفطار رمضانىّ، قدر ما أشعرُ به مع أصدقائى المسيحيين. لأن رمضان الكريم لحظتها يأخذ بُعدًا إنسانيًّا أشملَ وأوسعَ وأجمل. تظلّلنا الآن مظلة «الإنسانية» الأرحب، ويكون جمعُنا على محبة الخالق العظيم الذى شاء أن نتحاب ونُعمّر ونشيّد، لا أن نتباغضَ ونهدم ونقتتل.
المفكر الصهيونى، «داڤيد بن جوريون»، أول رئيس لوزراء إسرائيل بعد قيامها عام ١٩٤٨، تساءل عن كيفية كسر شوكة العرب المحيطين بدولته الوليدة، حتى يعيش هذا الكيان المحتلُّ فى أمان وسط الدول الرافضة وجوده. فقدّم له «موشيه شاريت»، وزير خارجية إسرائيل دراسة تقول إن السبيل الأوحد للحفاظ على إسرائيل، وسيادتها ليكون لها اليد العليا فى المنطقة، هو تدمير ثلاث دول محددة: العراق، سوريا، مصر. قال فى دراسته: «قوّتنا كإسرائيل لا تكمن فى القنبلة النووية، لأنها تحمل فى طيّاتها أسبابَ فنائها. بل يكمن نصرُنا فى تفتيت ثلاث دول عربية كبرى حتى تتشرذم إلى دويلات صغيرة متناحرة على أسس طائفية وعرقية: شيعة وسنّة فى العراق، علويون وسنّة وأكراد فى سوريا، مسلمون ومسيحيون فى مصر. ونجاحنا فى هذا لن يعتمد على ذكائنا، إنما يعتمد على غباء الطرف الآخر». ومفهوم مَن المقصود بالطرف الآخر دون شك. لكن «بن جوريون» ردَّ عليه قائلا: «بوسعنا النجاح فى العراق وسوريا. ولكن فى مصر لن يُكتب لنا النجاح، لأن الكتلة الشعبية الصلبة فى مصر من المسلمين والمسيحيين من العسير تفتيتها».
ويأتى هذا الإفطار المصرى للمسلمين والمسيحيين فى إحدى ليالى رمضان، وصلاة المسلمين وتكبيرهم فى ساحة الكنيسة، ليؤكد صحة كلام «بن جوريون» أن المصريين كتلةٌ صلبة لا تنفصم.
يتكرر المشهدُ المتحضر كلَّ عام فى رمضان على أرض مصر الطيبة. يفتح المسيحيون كنائسهم لصلاتنا، ويولمون الولائم لنتناول إفطارنا. يصومون صيام القيامة المجيد، ونصوم رمضاننا، ونرفعُ للسماء وجوهنا معًا لندعو اللهَ أن يمدّ يده الطيبة ليحفظ مصر وجيش مصر ورئيس مصر العظيم «عبد الفتاح السيسى» الذى خلّص مصر من ويل الإخوان وراح يشيّد «الجمهورية الجديدة» على أسس المواطنة والعدالة والتحضر والرقى الفكرى، وواجه بحسم نبتة الإرهاب السوداء القبيحة التى زرعها المجرمون فى دورنا وشوارعنا ومؤسساتنا وفى قلوبنا.
شكرًا على المحبة التى لو غمرت جموعَ المصريين ما قدرت علينا شياطين العالم. وشكرًا للرئيس العظيم «عبدالفتاح السيسى» الذى نجح فى هدم الفجوة التى صنعتها سياسياتٌ عنصرية خاطئة بين المسلمين والمسيحيين. وشكرًا لكل مستنير يبنى الوطن ويكرّس وحدتنا ولا يسمح للشتات أن يخترق كتلتنا المصرية الصلبة، والخزى والعار لكل مُغرض عميل يحاول تفتيت كتلتنا وشق صفنا. وخالص العزاء فى الشهيد العزيز الأب القمص «أرسانيوس وديد»، كاهن كنيسة السيدة العذراء وماربولس بالإسكندرية. «الدينُ لله والوطن لجميع أبناء الوطن».