بقلم - فاطمة ناعوت
هذا شهر أغسطس الذى يخاصمُه قلبى؛ لأننى فقدتُ فيه آباءً يظلُّ رحيلُهم يخزُ قلبى بشوكة الوجع، كلّما تصوّرتُ كيف للحياة أن تكون أجملَ وأرحم لو كانوا حولى، أنعمُ بظلال وجودهم. أبى المتصوفُ المثقف سافر إلى فردوس الله فى أغسطس قبل سنوات بعيدة، وأبى الروحى المتصوفُ الفنان «سمير الإسكندرانى» سافر إلى السماء فى نفس يوم سفر أبى الحقيقى ١٣ أغسطس قبل أعوام ثلاثة، وكذلك أبى الروحى المتصوف الفنان «محمد نوح» غدرنى وغادر كذلك فى أغسطس عام ٢٠١٢ وهو فى أوج حزنه على ضياع مصر فى عباءة الإخوان، ولم يقوَ قلبُه على الانتظار قليلًا؛ حتى يرى وطنَه العظيم ينتفضُ ويمزّق عن جسده دثارَ العار، ويتحرر فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣. رحل الفنان الجميل «محمد نوح» ولسانُه يلهجُ بنجوى الله وعشق الوطن: «مدد مدد مدد مدد، شدى حيلك يا بلد!».
ما أعجبَ تلك الأغنية الخالدة!. تشعُّ الفرحَ، والحزنَ، فى آن!. أُسمّيها قطعةً مُشعّة من الأحجار الكريمة تلمعُ بالضوء واللون وفق كمية وزاوية الضوء الساقط عليها. تسمعُها فى وقت الانكسار، فتشدُّ ظهرك وتقوّيك. تسمعُها فى وقت الانتصار، فتُحلّق بك فرحًا وفخرًا.
«مدد مدد مدد مدد/ وشدّى حيلك يا بلد/ إن كان فى أرضك مات شهيد/ فيه ألف غيره بيتولَد». غّناها عصفورُ الوطن «محمد نوح» بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، من موسيقاه وكلمات الشاعر «إبراهيم رضوان». لكن القرار السياسى آنذاك لم يشأ أن يَقرَّ فى وجدان الناس الشعور بالهزيمة، فأُطلِق عليها «نكسة»، ورفضت الإذاعة المصرية بثَّ الأغنية وقتها، وظلّت حبيسة الأدراج سنواتٍ حتى أشرق أكتوبرُ بالفرح وحقق جيشُنا العظيم انتصار ١٩٧٣، فبحثوا عن «الفتى نوح»، وفتّشوا عن أغنيته الجميلة، وحُرّرت من محبسها وصدح صداها فى جميع أرجاء الوطن. وكنّا نسمعها ونغنيها فى طفولتنا حين نزور «معرض الغنائم» فى رحلاتنا المدرسية، فتشتعلُ قلوبُنا الصغيرة وطنيةً وحماسةً. ألم أخبركم أنها أغنية «مشعّة» تحمل وخز الانكسار، وزهو النصر!. وبعد الانتصار كوّن «نوح» فرقته الموسيقية «النهار» التى اشتهرت بالأغانى الوطنية، واختار اسمها تيمّنًا بالنهار الذى يشقُّ ظلام الليل، متوسّلًا «الموسيقى» سلاحًا للنضال الوطنى. وكان يعزفُ على البيانو والعود والكمان والناى. بعد دراسته التأليف الموسيقى فى المعهد العالى للموسيقى العربية، أكمل دراسته فى جامعة ستانفورد الأمريكية، وعاد أستاذًا زائرًا فى معهدى الموسيقى العربية والسينما. بدأ حياته فى المسرح الغنائى المصرى مطربًا وممثلًا. وعطفًا على تلحينه أغانى وموشحات لمطربين مصريين وعرب كثيرين، كتب الموسيقى التصويرية لعدد كبير من الأفلام والمسرحيات منها موسيقى فيلم «المهاجر» الساحرة. وأخرج فيلمًا عن رحلة العائلة المقدسة لمصر. ولا ننسى دوره الجميل فى فيلم «الزوجة الثانية»، حيث كان هو صوت الضمير اليقظ فى عائلة العمدة الإقطاعى الظالم «عتمان».
وربما شخصيته فى هذا الفيلم الخالد هى الأقرب لشخصيته الحقيقية، فهو المناضلُ النبيل الثائر فى وجه الظلم. وشأنُه شأن أى إصلاحى لم ينجُ من سهام خصوم الحياة. اتهمه الإخوانُ بأنه «شيوعىٌّ»؛ إذ يَحضُّ على النضال والثورة!، واتهمه الشيوعيون بأنه «إخوانى» مادام يقول: «مدد»، مخاصمًا المادية الجدلية!. لم يدرك الفريقان أنه عصفورٌ شادٍ يغنى لوطن جريح. يشدو لكى يشحنَ الناسَ بالطاقة لتشييد وطن حرٍّ لا ظلم فيه ولا ظلام. هذا العصفورُ الذى عاش أحلام مصر وصافح وجهها المشرق، انسحب عن الحياة العامة مع عبوس وجهها، فعزف عن اللقاءات التليفزيونية والصحفية، وأغمض عينيه عن زيف النور الصناعى ليفتحهما على نصوع النور الإلهى، لتنطلق طاقتُه الصوفية من إسارها. عاش سنواته الأخيرة راهبًا معتكفًا فى «مِقلاة» سطح بيته بحى النزهة بمصر الجديدة. يسمع الموسيقى، يقرأ الكتب، يتابع الجرائد. ويقيم صالونه الفكرى الجميل، الذى تشرفتُ بحضوره مع نخبة من مثقفى مصر، هاربًا من ضجيج الزمن المشروخ بالتردّى الفكرى والثقافى.
كان لا يبخل علىَّ بمكالمة هاتفية كل أسبوع يأتينى خلالها صوتُه العميق هامسًا: «شاطرة يا بنت!» إن صادفَ لى مقالًا أعجبه. ويعاتبنى إذا فاتنى صالونه الأسبوعى الثرىّ. خسرتُ هذا الصوتَ المثقف المُشجّع الذى كان صخرةً قوية فى حياتى. ولكن ذاك الصوتَ خالدٌ فى قلبى وقلوب المصريين لا يذوى ولا يخفتُ نغمه. وكلما ضربنى الشوقُ لصوته أبحثُ عنه فى صوت شقيقه الفنان التشكيلى، الأديب المثقف، «حسين نوح»، صديقى الجميل الذى حصد البصمة الصوتية لشقيقه «نوح» كاملةً غير منقوصة. وأبحث عنه كذلك فى صومعة صديقتى، شقيقة قلبى، «سحر نوح»، كريمته الجميلة. رحمة الله على الصوت الشجى الوطنى القادر على نقر قلبك بزخّات النصر، وعلى وخزه بأشواك الوجع، ثم تضميده برحمات الرجاء واليقين بغدٍ أجمل. «ومدد مدد، بُكره الوليد، جاى من بعيد، راكب خيول فجره الجديد، يا بلدنا قومى واحضنيه، ده معاه بشاير ألف عيد