بقلم - فاطمة ناعوت
الضميرُ هو المايسترو الأعلى الذى يقود أوركسترا سلوك الإنسان، وينظِّم خطواتِه، فتخرج الجملةُ الموسيقية متناسقةً متناغمة، لا نشاز يفسدها. فإن غاب الضميرُ ظهرت الوحشيةُ والغلاظة والنشازُ الأخلاقى، وهنا يأتى دور «القانون» ليُصلحَ المعادلة. فالقانونُ هو حافظُ الحدّ الأدنى من الأخلاق، بينما «الضميرُ» هو ضامنُ حدّه الأعلى. دعونى أحكِ لكم قصة أغرب من الخيال حدثت معى أيام الجامعة، تشرحُ فلسفةَ «الضمير» وكيف يعملُ داخلنا.
كنتُ فى سنة أولى بقسم العمارة/ هندسة عين شمس، وتحديدًا فى محاضرة «الإنشاء Building»، حين اكتشفتُ أننى فقدتُ السيطرة على عنقى. رأسى يدور نحو اليسار دون إرادة منى! أُعيده للأمام لأنظر إلى المُحاضِر د. «هشام الألفى»، فيدور رأسى من جديد!. أجبره على الثبات بوضع يدى تحت ذقنى. وبمجرد أن أستعمل يدى فى الكتابة بكشكول المحاضرات، يغافلنى رأسى ويدور. لاحظ د. هشام هذا الشغب ونظر لى بِحدّه؛ فأنا أجلس فى الصفّ الأول. أطرقتُ بعينى خجلا، وأمسكتُ رأسى، وكلما أفلتُّه، دار دورتَه فيضحكُ الطلابُ، ثم تحول الضحكُ إلى حنق حين بدا أننى أودُّ تخريب الدرس وإشاعة الفوضى. عدتُ إلى البيت فى حال يُرثى لها من الخجل والحيرة مما أصابنى من سخف عنقى العنيد! بكيتُ لأمى وأخبرتُها أننى لن أذهب للجامعة بعد اليوم. فلا طاقة لى بيوم عسِر آخر بعنق جُنَّ وأصابه الخبل.
دارت بى أمى دورة واسعة على الأطباء من جميع التخصصات. بدأنا بالعظام، ثم الأوعية الدموية، ثم الأعصاب، ثم الأوردة، ثم الروماتويد. الجميع يؤكد أن كلَّ شىء على ما يرام، والأغربُ أننى لا أشعرُ بأى ألم فى عنقى، لكننى فقدت السيطرة عليه. أشارت مربيتى على أمى أن تذهب بى إلى المشايخ ربما «جّن لبسنى»! فأخذتنى أمى إلى أ.د. «عادل صادق»، أستاذ الطبّ النفسى الشهير، رحمه الله.
جلستُ أمامه صامتةً والخجل يُدثّرنى. هو أحدُ الذين أحببتهم وقرأتُ تحليلاتهم النفسية بشغفٍ، ولم أتصور أن أزوره، لا لأعبّر له عن حبى، بل لأجلس أمامه مهزومةً دون قدرة على النظر إليه، بل إلى يسار غرفة الكشف، حيث لوحة سوريالية لحصان يركض. جلس إلى يسارى حيث موضع عنقى «الملووح»، وراح يلاطفنى ويمازحنى، حتى اطمئننتُ وراح يدردش معى فى أمور عامة حول الطقس والثقافة والأدب وذكريات طفولتى وحياتى بالجامعة، وعن الحيوانات الأليفة التى أُربيها وذكرياتى معها. هنا تذكّرتُ واقعةً وقعت قبل عدة شهور، فقصصتُها؛ وما كنت أدرى أن فى مجرد تذكّرها «علاجى».
كنتُ عائدةً من الكلية، وما إن اقتربتُ لأضع مفتاحى فى باب الشقة حتى شعرتُ بأن قدمى اليسرى تدوس على شىء ليّن، أعقب ذلك مواءٌ حادّ وهرجٌ وتقافز قطط. أشعلتُ نور السلم لأجد قطّة أُم تُرضعُ أطفالها، ودون قصد منى دهستُ إحدى القطط الوليدة. حملتُ القطةَ المُصابة ففوجئتُ أن عنقها قد التوى. ركضتُ بها إلى عيادة الطبيب البيطرى فى العمارة المواجهة «د. إسطفانوس»، وقدمت له ضحيتى وأنا أصرخ باكيةً: (انقذْها يا أنكل من فضلك!) فهدّأنى وطمأننى وربط لها جبيرة صغيرة حول عنقها النحيل، واستضفتُها مع أمّها وأشقائها فى بيتى حتى شُفيت تمامًا، وكبرت القطيطة وصارت تملأ الدنيا مواءً وتنطيطًا وشقاوة. ونسيتُ الأمرَ.
نسيتُ الأمرَ «بعقلى الواعى»، لكن «عقلى الباطن» لم ينسها. هذا ما أخبرنى به د. «عادل صادق». ظلّ مشهدُ القطة الوليدة ملوية العنق يؤرق عقلى الباطن subconscious mind ويعذّبه ويرميه بالتُهم، فلم يجد عقلى الباطن حلاًّ سوى «القصاص» بنفس جنس الجريمة، فأصدر أوامره لعنقى بأن يلتوى كما لويتُ عنقَ القطة. هنا هدأ الضمير (الأنا العُليا) واستراحت نفسى وانشغلتُ بحياتى ونسيت الواقعة (ظاهريًّا). هذا ما يسميه الطب النفسى self-punishment أو العقاب الذاتى الذى به يحدثُ التطهّرُ والبراءُ من الخطايا.
خلقنا اللهُ عزّ وعلا، نحن بنى الإنسان، على نحو شديد التعقيد. كلُّ إنسان دولةٌ كاملة لها مؤسساتٌ سيادية ثلاث: تشريعية، قضائية، تنفيذية. بالنسبة لى شرّع المُشرّعُ (الضمير) أن تعذيب الحيوان جُرمٌ يستوجبُ العقاب. وحكم القضاءُ (اللاوعى) على شخصى المتهم بأن يكون العقابُ من جنس الجريمة؛ وأصدر حكمَه.. ثم تأتى السلطةُ التنفيذية (أوامر المخ) لتطبّقَ الحكمَ القضائى/ العقاب؛ وتُرسل النبضات الكهربية للجسد (المتهم). واستجاب المجرم (جسدى) للحكم، فالتوى عنقى حاملا رأسى الذى لم يكن يدرى كل هذا، لكنه انصاع للحكم صاغرًا حتى يستريح.
ما فعله د. صادق هو أن نقَل الحكاية المنسية من عقلى الباطن إلى عقلى الواعى فتأملتُها ووجدتُ أننى قد أصلحتُ خطأى وعالجتُ القطة فلا مبررَ للعقاب. وشفيتُ من فورى وعاد عنقى لطبيعته. سبحانك.