توقيت القاهرة المحلي 08:27:50 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الشِّعرُ.. والقضايا الكبرى

  مصر اليوم -

الشِّعرُ والقضايا الكبرى

بقلم - فاطمة ناعوت

«هل الشِّعرُ الحديث يسكنُ فى برج عاجىّ مُنفصلًا عن هموم الناس وقضايا المجتمع؟» سؤالٌ وُجِّه إلىَّ فى أحد اللقاءات التليفزيونية. والشاهدُ أن خطاب «ما بعد الحداثة»، الذى بدأ مع نهايات الستينيات من القرن الماضى، أعلن سقوط السُّلطات، وعلى رأسها سلطة الأيديولوجيا، فعزف الشعراءُ عن طرح القضايا الكبرى فى أشعارهم انطلاقًا من مذهب «إدجار آلان بو»: «الفنُّ للفن».

لكننى أرى أن الشِّعر الجديد مازال يحمل هموم الوطن والعروبة، لكن على نحو مغاير لما درج عليه الشعرُ الملتزم الصريح مثل التجربة الستينية وما قبلها. شاعرُ اليوم، وأنا منهم، يطرقُ تلك القضايا ولكن بمِعول خَفىّ، معول حادّ وجارح، لكن مراوغ. الشاعرُ يقتحمُ همومَ المجتمع عبر أبوابها الخبيئة المهجورة. قد لا ترى فى القصيدة مفرداتٍ مثل: فلسطين، القومية، العولمة، إسرائيل، التطبيع، النكسة، الوطن، وهلم جرا.

لكنك ستجد كلَّ ما سبق مُتخفّيًا داخل فنجان القهوة، والطفلة الخائفة، ومحطة المترو، والجريدة، وفستان البنت، وشريطة شعرها، وغيرها من مفردات الحياة البسيطة. حين يقول لك شاعرٌ: «راح الفتى يبحثُ عن وردةٍ لحبيبته، فوجد محالَّ الورود فى البلدة مغلقةً والأشجار لم تعد تطرح الزهور».

فلن تقف عند المستوى الأول للدلالة، بل ستبحث عن سبب انغلاق محال الورود، ولماذا أضربت أشجارُ الورد عن الإزهار؟، هذا السطرُ البسيطُ يحمل قضايا كبرى، لكنه لم يعد يصرخ بشعارات ضخمة، بل يطرق النار بعود قش رهيف، عوضًا عن طرقها بقضيب معدنى، أو لوح أسمنتىّ.

وفى رأيى أن هذه الطرائق فى معالجة القضية هى الأكثرُ فاعليةً والأقوى تعبويةً. لأنها تضع «القارئ» فوق المنصّة، فاعلًا متفاعلًا، بدلَ ما كان، فى القديم، أحدَ الحضور الذين يسمعون فى صمت. القارئ هنا يفكر ويُكمل الدلالات الناقصة، فيكون ضالعًا مع الشاعر فى استخراج التأويلات. المعنى صار «فى عقل القارئ»، بعدما كان قديمًا: «فى بطن الشاعر».

تكلّم «سارتر» عن «الأدب الملتزم»، وضرورة أن يحمل الأدبُ «رسالةً كبرى»، وإلا خرج من حقل الإبداع. أتفقُ معه فى الفكرة، فأنا لا أستسيغُ الكتابة الهلامية التى لا تثور. ولكن الثورة فى الشعر ليست علوَّ النبرة وفخامة الكلمات، بل العكس، فأجملُ الثورات هى تلك التى تحرك الكونَ فى هدوء وبساطة، دون أن تُشعرك أن ثمة ثورة تشتعل، لتصحو ذات صبح وقد صار الظلامُ نورًا.

كيف تُشعل ثورةً دون أن تثير جلبةً؟، تلك محنةُ الشاعر. رسالته الوجودية والجمالية معًا، فكلُّ أدبٍ جميل لابد أن يحمل رسالةً. لكن طرائق التعبير عن الرسالة تتباين من شاعر إلى شاعر. وأفقرُ تلك الطرائق، فنيًّا ومضمونيًّا، هو المباشرة والصخبُ.

فى قانون الهندسة: «الخطُّ المستقيم أقصرُ الطرق بين نقطتين»؛ وتلك نظريةٌ إقليدية صحيحة، لكنها تخسرُ فى ميزان الفن. لأن الفنَّ تمرّدٌ على الاعتيادى. الفنُّ رمزٌ ومجازٌ ورسمٌ ولعِبٌ وانزياح، وليس منطقًا ونظرياتٍ وقواعدَ وقوانينَ وحِكمًا. «الكلمة» فى المقال هدفُها «نقل وتوصيل» المعلومة كالقطار الذى ينقلنا من مكان إلى مكان. أما فى الشِّعر، فتفقدُ «الكلمةُ» وظيفة «النقل» وتتحول من «قطار» إلى «طيارة ورق» ترقصُ وتغنى.

وظيفة القدمين «الانتقالُ من مكان إلى آخر» فى حال «السَّير»، بينما فى الرقص، تتنصلُ القدمان من تلك الوظيفة، وتكتسبان وظيفةً جديدة هى «الثورة على السير المنتظم». «الكلمة» فى الشعر هى «الحركة» فى الرقص. تهرب من «الوظيفة» وتقتربُ من الرسم الفنى وتشكيل الدهشة والثورة على «العادى». الفنُّ قتلٌ مع سبق الإصرار والترصد «للاعتياد» الذى فيه موتُ الفن ومقتلُ الجمال.

ومن هنا فالإبداعُ خيانةٌ للمنطق. لذا يلزمُ الشعرَ الجميل قارئٌ ذكىٌّ يفكك شفرات النصّ ليستخرج منه الخبيئةَ الكامنةَ التى تتخفّى بين السطور. يقتنص منه الثورة والتمرد على فنون القول الاعتيادية. ولذا فإن قراءةَ الشِّعر باستسهال هدمٌ وترويعٌ للقصيدة.

وأعودُ للجملة البسيطة: «راح الفتى يفتّشُ عن زهرة لحبيبته/ وعاد دون زهرة» قد تقتلها لو قرأتَها باستسهال. لكنَّ القارئَ الحصيفَ سوف يبصرُ فيها دلالات سياسية واجتماعية وفلسفية شديدة التعقيد. حين يتساءل: هل محالُّ الزهور مغلقة لأن المدينة محتلّة، أم أن حكمًا دينيًّا فاشيًّا يكبّلها؟ هل هى طهران، الخرطوم؟.

هل هى مصر لحظة الاحتلال الإخوانى؟، أم أن الحقولَ جفّت، فلا زهور تنمو بسبب الفقر والقفر؟، أم أن المطرَ يهطلُ لكن الزهرَ يأبى أن ينمو هناك لأنه غاضبٌ؟، هل يغضبُ الزهرُ؟، متى يغضبُ الزهرُ، ولماذا؟. مليون تأويل بوسعنا أن «نُبصره» فى تلك العبارة القصيرة.

من هنا أقول إن كل عمل إبداعى جميل يحمل، بالضرورة، أسئلة وجودية كبرى. وكل قصيدة جميلة هى «ثورة» على اللغة والبيان، وإن لم تبدُ فوق السطح. وعلى القارئ أن يجهدَ فى التفتيش عنها لأن القراءة فنٌّ صعبٌ، لا يقلّ عسرًا عن فن الكتابة، ولا يقل عسرًا عن ثورات التاريخ العظمى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشِّعرُ والقضايا الكبرى الشِّعرُ والقضايا الكبرى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon