توقيت القاهرة المحلي 08:32:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الشِّعرُ.. والقضايا الكبرى

  مصر اليوم -

الشِّعرُ والقضايا الكبرى

بقلم - فاطمة ناعوت

«هل الشِّعرُ الحديث يسكنُ فى برج عاجىّ مُنفصلًا عن هموم الناس وقضايا المجتمع؟» سؤالٌ وُجِّه إلىَّ فى أحد اللقاءات التليفزيونية. والشاهدُ أن خطاب «ما بعد الحداثة»، الذى بدأ مع نهايات الستينيات من القرن الماضى، أعلن سقوط السُّلطات، وعلى رأسها سلطة الأيديولوجيا، فعزف الشعراءُ عن طرح القضايا الكبرى فى أشعارهم انطلاقًا من مذهب «إدجار آلان بو»: «الفنُّ للفن».

لكننى أرى أن الشِّعر الجديد مازال يحمل هموم الوطن والعروبة، لكن على نحو مغاير لما درج عليه الشعرُ الملتزم الصريح مثل التجربة الستينية وما قبلها. شاعرُ اليوم، وأنا منهم، يطرقُ تلك القضايا ولكن بمِعول خَفىّ، معول حادّ وجارح، لكن مراوغ. الشاعرُ يقتحمُ همومَ المجتمع عبر أبوابها الخبيئة المهجورة. قد لا ترى فى القصيدة مفرداتٍ مثل: فلسطين، القومية، العولمة، إسرائيل، التطبيع، النكسة، الوطن، وهلم جرا.

لكنك ستجد كلَّ ما سبق مُتخفّيًا داخل فنجان القهوة، والطفلة الخائفة، ومحطة المترو، والجريدة، وفستان البنت، وشريطة شعرها، وغيرها من مفردات الحياة البسيطة. حين يقول لك شاعرٌ: «راح الفتى يبحثُ عن وردةٍ لحبيبته، فوجد محالَّ الورود فى البلدة مغلقةً والأشجار لم تعد تطرح الزهور».

فلن تقف عند المستوى الأول للدلالة، بل ستبحث عن سبب انغلاق محال الورود، ولماذا أضربت أشجارُ الورد عن الإزهار؟، هذا السطرُ البسيطُ يحمل قضايا كبرى، لكنه لم يعد يصرخ بشعارات ضخمة، بل يطرق النار بعود قش رهيف، عوضًا عن طرقها بقضيب معدنى، أو لوح أسمنتىّ.

وفى رأيى أن هذه الطرائق فى معالجة القضية هى الأكثرُ فاعليةً والأقوى تعبويةً. لأنها تضع «القارئ» فوق المنصّة، فاعلًا متفاعلًا، بدلَ ما كان، فى القديم، أحدَ الحضور الذين يسمعون فى صمت. القارئ هنا يفكر ويُكمل الدلالات الناقصة، فيكون ضالعًا مع الشاعر فى استخراج التأويلات. المعنى صار «فى عقل القارئ»، بعدما كان قديمًا: «فى بطن الشاعر».

تكلّم «سارتر» عن «الأدب الملتزم»، وضرورة أن يحمل الأدبُ «رسالةً كبرى»، وإلا خرج من حقل الإبداع. أتفقُ معه فى الفكرة، فأنا لا أستسيغُ الكتابة الهلامية التى لا تثور. ولكن الثورة فى الشعر ليست علوَّ النبرة وفخامة الكلمات، بل العكس، فأجملُ الثورات هى تلك التى تحرك الكونَ فى هدوء وبساطة، دون أن تُشعرك أن ثمة ثورة تشتعل، لتصحو ذات صبح وقد صار الظلامُ نورًا.

كيف تُشعل ثورةً دون أن تثير جلبةً؟، تلك محنةُ الشاعر. رسالته الوجودية والجمالية معًا، فكلُّ أدبٍ جميل لابد أن يحمل رسالةً. لكن طرائق التعبير عن الرسالة تتباين من شاعر إلى شاعر. وأفقرُ تلك الطرائق، فنيًّا ومضمونيًّا، هو المباشرة والصخبُ.

فى قانون الهندسة: «الخطُّ المستقيم أقصرُ الطرق بين نقطتين»؛ وتلك نظريةٌ إقليدية صحيحة، لكنها تخسرُ فى ميزان الفن. لأن الفنَّ تمرّدٌ على الاعتيادى. الفنُّ رمزٌ ومجازٌ ورسمٌ ولعِبٌ وانزياح، وليس منطقًا ونظرياتٍ وقواعدَ وقوانينَ وحِكمًا. «الكلمة» فى المقال هدفُها «نقل وتوصيل» المعلومة كالقطار الذى ينقلنا من مكان إلى مكان. أما فى الشِّعر، فتفقدُ «الكلمةُ» وظيفة «النقل» وتتحول من «قطار» إلى «طيارة ورق» ترقصُ وتغنى.

وظيفة القدمين «الانتقالُ من مكان إلى آخر» فى حال «السَّير»، بينما فى الرقص، تتنصلُ القدمان من تلك الوظيفة، وتكتسبان وظيفةً جديدة هى «الثورة على السير المنتظم». «الكلمة» فى الشعر هى «الحركة» فى الرقص. تهرب من «الوظيفة» وتقتربُ من الرسم الفنى وتشكيل الدهشة والثورة على «العادى». الفنُّ قتلٌ مع سبق الإصرار والترصد «للاعتياد» الذى فيه موتُ الفن ومقتلُ الجمال.

ومن هنا فالإبداعُ خيانةٌ للمنطق. لذا يلزمُ الشعرَ الجميل قارئٌ ذكىٌّ يفكك شفرات النصّ ليستخرج منه الخبيئةَ الكامنةَ التى تتخفّى بين السطور. يقتنص منه الثورة والتمرد على فنون القول الاعتيادية. ولذا فإن قراءةَ الشِّعر باستسهال هدمٌ وترويعٌ للقصيدة.

وأعودُ للجملة البسيطة: «راح الفتى يفتّشُ عن زهرة لحبيبته/ وعاد دون زهرة» قد تقتلها لو قرأتَها باستسهال. لكنَّ القارئَ الحصيفَ سوف يبصرُ فيها دلالات سياسية واجتماعية وفلسفية شديدة التعقيد. حين يتساءل: هل محالُّ الزهور مغلقة لأن المدينة محتلّة، أم أن حكمًا دينيًّا فاشيًّا يكبّلها؟ هل هى طهران، الخرطوم؟.

هل هى مصر لحظة الاحتلال الإخوانى؟، أم أن الحقولَ جفّت، فلا زهور تنمو بسبب الفقر والقفر؟، أم أن المطرَ يهطلُ لكن الزهرَ يأبى أن ينمو هناك لأنه غاضبٌ؟، هل يغضبُ الزهرُ؟، متى يغضبُ الزهرُ، ولماذا؟. مليون تأويل بوسعنا أن «نُبصره» فى تلك العبارة القصيرة.

من هنا أقول إن كل عمل إبداعى جميل يحمل، بالضرورة، أسئلة وجودية كبرى. وكل قصيدة جميلة هى «ثورة» على اللغة والبيان، وإن لم تبدُ فوق السطح. وعلى القارئ أن يجهدَ فى التفتيش عنها لأن القراءة فنٌّ صعبٌ، لا يقلّ عسرًا عن فن الكتابة، ولا يقل عسرًا عن ثورات التاريخ العظمى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشِّعرُ والقضايا الكبرى الشِّعرُ والقضايا الكبرى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon