بقلم -فاطمة ناعوت
أهدى هذا المقال لأبى المتصوّف الجميل الذى علّمنى أن أحبَّ جميعَ خلق الله، دون قيدٍ أو شرط. لأن حبَّ الخلقِ فرعٌ من/ ودليلٌ على، حبِّ الخالق. هذا المقال أُهديه إلى «أجمل أبٍ فى الدنيا». وأعلمُ أن العديدَ ممن يقرأون الآن هذه العبارة سوف يهمسون سرًّا أو يهتفون جهرًا: «بابا هو أجمل أب فى الدنيا!»، وبهذا فهو مُهدى لكل هؤلاء وأولئك. أمس الأحد، كان «عيد الأب».
جميعُ الأدبيات فى ثقافات العالم «دلّلت» الأمَّ ووضعتها دُرّةً على تاج العلاقات الإنسانية. والأديانُ جميعُها كرّمت «الأمَّ» وأسكنتها المكانة الأعلى بين البشر. وقصائدُ الشعراء، وروايات السُّرّاد، والأغنيات، والأمثال الفولكلورية، والدراما، وغيرها من همسات البشر فى آذان البشر، أوسعتِ الأمَّ كتابةً وتصويرًا وتخليدًا. وهى دون شكّ تستحق كل هذا وأكثر. فالأمُّ صنوُ العطاء منذورةٌ لأعسر وأشقّ وأنبل مهمة بيولوجية وإنسانية يؤديها كائنٌ حى. أن يَخلُصَ من جسدها جسدٌ، ومن نفسِها نفسٌ، ومن قلبها قلبٌ، مثلما تُشرق برعمةُ زهرة من طمى الأرض الطيبة. ثم لا تكتفى بهذه المُعجزة، بل تُكملُ دورَها القدسىّ فى إنبات ورعاية براعمها، حتى تستوى الزهورُ على أغصانها.
ويُنسَى الأبُ. وقلّما يتذكرُ أنه يُنسى. يتواضعُ عن معرفة مكانه ومكانته. فقد كان هذا الأبُ طفلا يحبُّ أمَّه ويرتمى فى حضنها إن غاضبه طفلٌ مشاكس، أو نهره الأبُ، أو عنّفه المعلم. علّمته الحياةُ مبكرًا أن يأتى بعد الأم، حين يصبح أبًا. الأم هى «الكلّ فى الكل» فى البيت وفى قلوب الصغار. وكلما تذكّر أنه يُنسى، وقف حائلا بينه وبين التذكّر حديثٌ شريف يقول: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثم أبوك». والشاهدُ أن الأبَ الحقيقى لا يعبأ بالتكريم، بل يعبأ بتكريم الزوجة والأم التى أنشأت أطفاله، ويكفيه الفرحُ فى عيون الصغار. الأبُ الكريمُ لا يشعرُ بالأبوّة لصغاره وحسب، بل كذلك للجميلة التى جعلته أبًا، وصارت لصغاره أمًّا.
هذا العيدُ للآباء الحقيقيين الذين يستحقُّون التكريم، لا الآباء الذين ينجبون عديد الأطفال، كأى كائن حى، ثم ينسون صغارَهم فيما ينسون، ويتركون عبئهم للدولة. أهدى هذا المقال مع باقة زهر لكل أب يرعى صغاره حتى يصيروا رموزًا يفخر بهم هذا الوطن الطيب، ويحبُّ ويحترم زوجته، تلك الجميلة التى حملها إلى بيته صبيةً صغيرة، فصارت على يديه أُمًّا يلتفُّ حولها صغارُه.
دعونى أحكى لكم قصة «عيد الأب». صبيةٌ أمريكية طيبة اسمها «سونورا لويس سمارت دود» عاشت فى أوائل القرن الماضى، كانت تستمع فى أحد الآحاد من عام ١٩٠٩ إلى عظة دينية عن «عيد الأم». وكانت أمّها قد رحلت عنها وهى تلد طفلها السادس، ولم تكمل سونورا بعد عامها السادس عشر. فكرّس أبوها، المزارع البسيط، حياته لتربيتها مع أشقّائها الذكور الخمسة. لم تعرف «سونورا» غير حنان أبيها حنانًا، ولم تجرّب غير حضنه حضنًا، ولم تسمع غير وجيب قلبه على أطفاله، وما شهدت غير سهره على مرضها وصحوها واستذكارها دروسها. فما كان منها إلا أن كتبت عريضة مطولة تكلمت فيها عن مكانة الأب فى حياة أطفاله، وأوصت فى نهاية عريضتها بتخصيص يوم للاحتفال بالأب، أسوةً بعيد الأم العالمى الخالد، العابر للجغرافيات والأزمان. واقترحت عيد ميلاد والدها ليوافق هذا العيد. قدمت الفتاةُ العريضة للائتلاف الحكومى لمدينة سبوكين، فأيدت فكرتَها بعضُ الفئات المجتمعية فى ولايتها. وفى العام التالى احتفلت مدينة «سبوكين» بولاية واشنطن بأول عيد أب فى العالم يوم ١٩ يونيو ١٩١٠. ثم جاء عام ١٩٦٦ ليصدر الرئيس الأمريكى «ليندون چونسون» مرسومًا رئاسيًّا بأن يكون «الأحد الثالث من شهر يونيو»، هو العيد الرسمى للأب.
وبالرغم من مرور أكثر من قرن على تدشين «عيد الأب»، إلا أنه يظلّ عيدًا خجولا، يتسلل كل عام على استحياء، وقلّما يشعر به أحد. فثمة أبٌ يُفاجأ بأطفاله يتحلّقون حوله ويقدمون له الهدايا. فيبدأ فى فضّ الأغلفة وهو غارق فى التفكير: «هل اليوم عيد ميلادى وقد نسيتُ وتذكّروا؟»، وبعد برهة يسمع من يقول: Happy Father’s Day، Dad. فيتذكر ما قد نسى. وثمة آباءٌ لا يعرفون شيئًا عن هذا العيد الخجول.
أقول للأب الجميل الذى أعرفه: المهندس المعمارى المرموق «نبيل شحاتة»: «لم تكن فقط أبًا رائعًا لأطفالى مازن وعمر، بل كنتَ لى، وستظلُّ: أبًا حنونًا، وشقيقًا رائعًا، وصديقًا طيبًا لا أخجل أن يرى دموعى وضعفى حين تقسو الحياة. كل عيد أب وأنت أجمل أب. وحفظ اللهُ تعالى الأب الحنون لهذا الشعب، رئيسنا العظيم «عبدالفتاح السيسى».