بقلم - فاطمة ناعوت
الدينُ لله، والوطنُ لَمن يسقى بالحبّ أرضَ الوطن، ويجدلُ من السَّعف تاجًا لمجد الوطن. فى طفولتى وفى مثل هذه الأيام الربيعية الجميلة، كنتُ أنا وأطفالُ مدرستى وأطفالُ الجيران فى شارعنا نجمعُ عيدانَ السَّعف الخضراء، ونتبارى فى جدلها لنصنع أشكالا جميلة نُعلّقُها فى غرفنا، حتى تجفَّ ويذهبَ الرِّى عن نُسغها، فتتحولُ من الأخضرِ إلى الأصفر الذهبى المُشعّ، كأنها مرويةٌ بماء الشمس. أجدلُ شرائحَ السَّعف تاجًا لأمى، وخاتمًا لأبى، وأساورَ ولُعبًا لى ولأصدقائى. وكانت أمى تشترى باقةً خضراءَ من سنابل القمح المصرى الثمين، وتعلّقها على باب الشقة تيمُّنًا بالبركة والرغد والسلام. وكنتُ أرقبُ السنابل وهى تجفُّ يومًا بعد يوم، حتى تتحوّل إلى شعلة من الذهب السحرى، تجلبُ الخيرَ إلى بيتنا وتحمى أسرتنا من عيون الحاسدين، كما كان يؤمن أجدادى المصريون القدامى.
ونحن صغار، لم يكن يعنينا إن كان هذا عيدَنا أم عيدَهم! لم تدخل معاجمَنا ضمائرُ الغائبين ولا كلماتُ الفُرقة: عيد المسلمين- عيد المسيحيين. كنّا نفرحُ معًا ونحتفلُ بأعيادنا معًا، لأن مصرَ الطيبةَ تجمعُنا معًا، وتعلو بنا معًا، تحت مظلة الإنسانية الواسعة. علّمنى أبى وأمى أننا جميعًا نعبدُ إلهًا واحدًا، كلٌّ يراه عبر منظوره، ويعبده وفق طقوسه، لهذا علينا أن نحترم الجميع ونحبَّ الجميع.
فى هذه الأيام الطيبة ندعو الَله أن نصطفّ جميعًا، نحن المصريين، قلبًا واحدًا وحُلمًا واحدًا ويدًا واحدة تبنى وتكدُّ وتجدُّ، حتى نحملَ أكاليلَ السَّعف لنستقبل بها مصرَ الكريمة رفيعةَ المقام فى «الجمهورية الجديدة» التى انبعثت من رقادها وتعلو يومًا بعد يومٍ حتى تصير دُرّةَ تاج العالم، كما يليق بها أن تكون. نصطفُّ نحن المصريين على الجانبين لنستقبل مصر البهية حاملين أعلامَ الوطن وسنابلَ القمح، كما اصطفّ أهالى القدس الشريف، منذ ألفى عام، حاملين أغصانَ الزيتون والسعف لاستقبال السيد المسيح، رسول السلام عليه السلام، حين دخل أورشليم القديمة منتصرًا مكللاً بأوراق الغار.
نحن المسلمين صائمون شهرَ رمضان المعظّم، وأشقاؤنا المسيحيون صائمون صيامَهم الكبير، يفطرون فى عيد القيامة المجيد، ونفطر فى عيد الفطر المبارك. ونرفعُ معًا أيادينا للسماء ضارعين بالدعاء لله أن يحمى مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ
وجيش مصر الباسل، ويحفظ رئيس مصر العظيم «عبدالفتاح السيسي» حتى يتممَ نهضتنا المشهودة المنشودة. يجمعنا نحن المصريين حبُّ مصرَ، وتجمعُنا طريقُ الآلام الوعرة التى مشت عليها مصرُ حتى عادت لنا حرّةً من قبضة بنى صهيون ومن أنياب بنى الإخوان، تمامًا كما سار السيد المسيح، طريقًا وعرة من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة، فى مثل هذا الأسبوع، أسبوع الآلام، قبل ألفى عام.
بعد أسبوع الآلام هذا، سيحتفلُ أشقائى مسيحيو مصرَ بعيد القيامة، ثم نحتفل بعدهم بعيد الفطر المبارك. كل سنة وأقباط مصر مسلمين ومسيحيين بخير وفرح وأمان ومحبة، ومصر فى حرية وتحضّر. كلّ عام ونحن نجدل معًا أغصان السلام والمحبة ونبنى مصر العظيمة.
نحن المصريين نعرفُ كيف نحبُّ. ولا نسمحُ لأحد بأن ينتزعَ المحبةَ من قلوبنا ليزرع مكانها بذرة البغضاء والشقاق والطائفية. غيابُ الحبّ أصلُ كلّ شرور العالم. فاجلسْ الآن إلى طاولتك واجدلْ شيئًا من السعف لمن تحبّ. ثم افحصْ قلبَك. قلبك يخفق؟ إذن أنت بخير، ولا خوفٌ عليك. أنت بخير حين تتيقّن أن قلبك مازال قادرًا على الحب، رغم ما تصادفه فى حياتك من قبح. الحبُّ نعمةٌ هائلة لا يدرك معناها إلا ذوو القلوب النظيفة الخافقة. أما ذوو البلادة القلبية فليس لهم إلا الشفقة والدعاء لهم بأن يتعلّموا كيف أحبّنا الله، ولم يطلب منّا سوى أن نحبه ونحب خلقَه فنُعمّر الكون بالرغد والسلام. أنت تحب، إذن أنت إنسانٌ سوىّ. أحببْ حبيبتك، أحببْ أخاك، أحببْ جارك، أحببْ عدوك، أحب الحيوانَ والطير والشجر. أحب الكون، فتكون بهذا مُحبًّا لله. «الدينُ لله، والوطن لمن يسقى بالحبّ أرضَ الوطن».
عيدانُ السعف الخضراء مع الباعة فى كل مكان، تنتظر أن يجدلها الجادلون. عزيزى القارئ الجميل، ابتسم فى وجه الصبايا يعتمرن على رؤوسهن التيجان المجدولة من السعف، ويضعن الخواتمَ والأساورَ وزهراتِ اللوتس، ثم لوّح لهنّ من سيارتك مبتسمًا وأنت تقول: «كل سنة وأنتم طيبين يا حبايبى، وكل حد زعف وأنتم بخير وفرح». اركن السيارة جانبًا وانزل لتشترى بعض عيدان السعف لأطفالك حتى يجدلوها، ثم يهدونها إلى أصحابهم المسيحيين، كما كنا نفعل فى طفولتنا. إن كنت قد فعلت هذا بالأمس فى «أحد الشعانين»، فأنت إنسان نقىّ نظيفُ القلب غير مُدنّس الروح. كل عام ومصرُ جميلة بأبنائها.