بقلم - فاطمة ناعوت
«بأمر رئيس الجمهورية، لو وجدتَ مواطنًا بلا مأوى، أو إنسانًا نائمًا فى الطريق، اتصلْ فورًا على الخط الساخن 16439، أو برقم 01095368111». تلك هى الرسالة التى تسرى الآن فى جنبات مواقع التواصل الاجتماعى ودروبها، ليس كما تقول الأدبياتُ العربية: (سريانَ النار فى الهشيم)، بل سأقول: إنها تسرى (سريانَ الدمِ فى الوريد). وكيف لا؛ وتلك الحملةُ الإنسانية المحترمة، تُعيدُ الدمَ إلى سريانه الحيويّ فى شرايين جسد مصرَ، الأمِّ الطيبة؛ حتى تطمئنَ تلك الأمُّ حين تستعيدُ أبناءها إلى حضنها، بعدما انتثروا فى شتات الفقد؟! وأما تلك الأرقام، فهى هواتفُ «فريق التدخّل السريع» فى وزارة التضامن الاجتماعى، التى تبذلُ وزيرتُها الجميلةُ مع فريق عملها النشط، جهودًا جليلة، فى هدوء وصمت، منذ تولّيها الوزارة عام ٢٠١٤، من أجل الوصول إلى حالٍ مجتمعية أنيقة، اسمُها: «وطنٌ بلا مُشرّدين».
بعد ذيوع خبر «الستّ صفية» العجوز الفقيرة التى افترشت خشونةَ الأرضِ والتحفت عواصفَ السماء فى طقس صقيعيّ، أوصى الرئيسُ عبدالفتاح السيسى بألا تكتفى وزارةُ التضامن بالبلاغات التى تصلها من المواطنين، بل تجوب فِرقُها أرجاء مصرَ؛ بحثًا عن مُشرّدى الشوارع من الأطفال والمُسنّين، لكى تُعيدَ المفقودين منهم إلى ذويهم المفجوعين عليهم، وتأوى داخل جدران دور الرعاية مَن لا أهل لهم ولا مأوى، حتى يتذوّقوا الدفءَ الجسديَّ والدفءَ الروحيّ، حين يشعرون أن ثمّة من يعبأ بهم من قيادات هذا الوطن النبيل. وبالفعل تضافرت جهودُ فريق «التدخل السريع» مع فريق مشروع «أطفال بلا مأوى» فى سيمفونية عمل مشترك منضبطة الإيقاع، نجحت فى التقاط أكثر من ألف مواطن مصرى مُشرّد من صقيع الوحدة وخشونة الطرقات وويلات العراء، ليتعرفوا على السَّكن والرحمة داخل الدور الآمنة. حملاتٌ دءوبٌ لا تعرف الكسلَ، تحمل اسمَ تلك العبارة «الحُلم»: «وطن بلا مشرّدين» تجوبُ الآن، على مدار الساعة، محافظاتِ مصرَ شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا، لتجمع كبار السنّ من الشوارع، فيتم إسعافُهم وعلاجهم وتسكينهم، بالتنسيق بين مديريات التضامن الاجتماعى فى شتى المحافظات، وطلاب نبلاء متطوعين من شباب الجامعات.
مع موجة البرد القارسة الأسبوعَ الماضى، قررتْ وزيرةُ التضامن الاجتماعى د. غادة والى، أن يندمج فريقُ «التدخل السريع» الذى تترأسه الوزيرةُ بنفسها مباشرة، مع مشروع «أطفال بلا مأوى» الذى أنشأته الوزارةُ عام ٢٠١٦، بميزانية تُقدَّرُ بـ ١٦٤ مليون جنيه، وحيازة سبع دور رعاية و١٧ سيارة مجهّزة بمعدّات الإسعاف والتمريض والترفيه، حتى تصبَّ مزايا هذا فى مزايا ذاك، بهدف الوصول إلى رجاء مصرَ الأمّ فى أن تجمع أطفالَها وعجائزَها داخل حضن قلبها، بعيدًا عن أهوال العراء والتشرّد.
الجميلُ فى الأمر هو أن تلك الحملات الرئاسية والوزارية التضامنية تستهدف «المُشرّدين» وليس «المتسوّلين» والفارقُ بينهما عظيم. ليس فقط لأن التسوّلَ صار حِرفةَ الكسالى والمُتنطّعين الذين يرتزقون من كدِّ الجادين، وليس فقط لعدم تشجيع آفة «التسوّل» البغيضة، وليس فقط لأن كثيرًا من المتسوّلين يتبيّنُ فى نهاية الأمر أنهم أثرياءُ يستنزفون عرقَ الشرفاء الكادحين، بل كذلك إكرامًا للآية الكريمة: «للفقراءِ الذين أُحصِروا فِى سبيلِ الله لا يستطيعون ضرْبًا فى الأرضِ يَحسَبُهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفّفِ تعرفُهم بسيماهم لا يَسأَلون النَّاسَ إلحافًا». أولئك البؤساءُ الكرماءُ يراهم المرءُ فيحسبهم أغنياءَ لأنهم يتعفّفون عن السؤال ومدّ اليدّ والإلحاف فى السؤال، وهم من وصفهم الرسولُ بقوله: «ليس المسكينُ الذى تردّه التمرةُ والتمرتان، ولا اللقمةُ واللقمتان، إنما المسكينُ الذى يتعفّف ولا يسألُ الناسَ شيئًا». أولئك من يستحقون أن تعولهم الدولة وتكفلهم.
والقصةُ أبعدُ كثيرًا من إيواء مَن لا مأوى له. إنها مسألةُ «أمن قومى». فأطفالُ الشوارع، الذين يتناسلون ليلدوا مزيدًا من أطفال الشوارع، إنما هم هدفٌ خصبٌ لعيون شريرة تراقبهم حتى تحينَ لحظةُ تجنيدهم فى عالم الجريمة أو عالم الإرهاب. ولهذا فإن إيواء طفل مشرّد، هو بمثابة تحويل مجرم مُحتمَل، أو إرهابى مُحتَمَل، إلى طبيب أو مفكر أو موسيقيّ أو مهندس محتمل. شكرًا لكل يدٍ شريفة تسهم فى تلك الحملات النبيلة. و«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع