بقلم - فاطمة ناعوت
كنتُ، مثل معظم أبناء جيلى، طفلةً بريئة، أُصدّقُ ما يُقال لى لأننى لا أفترضُ فى الناس إلا الصدق. كنتُ عنيدةً، متمردةً، شاطرة فى المدرسة، وأفكارى تسبق عمرى، ورغم كل ما سبق، من السهل جدًّا خداعى. كنتُ فى الرابعة من عمرى حين شاهدتُ إعلان فيلم «أبى فوق الشجرة»، فركضتُ إلى أبى وسألته: لماذا صعد الأبُ فوق الشجرة؟، فأنبأنى أبى الشاعرُ: «حتى يكلِّمَ العصافيرَ ويبنى معها أعشاشَها»، فقررتُ أن أتسلّق الشجرةَ لأكلم العصافير.
وكلّما أطلَّ الصيفُ برأسه من نافذة الحياة، وبدأ الحديثُ عن البحر والشمس والمصايف، أتذكر أغنية «دقوا الشماسى»، التى صُوِّرت على بلاج الإسكندرية الساحر فى أيام طفولتنا. وأتذكر حكايتى مع فيلم «أبى فوق الشجرة»، الذى قرر أبى وأمى مشاهدته فى السينما. توسّلت لأمى أن أذهب معهما لأننى أريد أن أشاهد «عمو وهو بيطلع فوق الشجرة ليكلّم العصافير»!، ورفضت أمى بالقطع لأنه «فيلم للكبار فقط». لكن أبى الطيب أقنعها أننى بالتأكيد سوف أنام مباشرة بعد فقرة «ميكى ماوس»، التى كانت تُعرض فى السينمات قبل الأفلام، فلا خوف إذن على طفلة لا تعِى من أمرها شيئًا!، وهذا ما حدث. استغرقتُ فى النوم بعد والت ديزنى مباشرة. لكننى كنتُ أصحو من النوم منتفضةً بين الحين والحين لأسأل أمى: «ماما عمو طلع فوق الشجرة ولّا لسه؟»، تُجيب أمى: «لسه.. نامى يا حبيبتى. لما يطلع فوق الشجرة هصحِّيكى»، وطبعًا صدّقتُ وعد أمى بأنها ستوقظنى حين يطلع عمو فوق الشجرة. كنتُ أصغر من فهم المجاز الأدبىّ الذى اختاره «إحسان
عبدالقدوس» فى عنوان الرواية ليشير إلى وقوع الأب فى نفس الفخ الذى حاول إنقاذ ابنه منه. كل ما كان يعنينى هو مشهد رجل وسيم وأنيق يشبه أبى، وهو يصعد فوق الشجرة ليلعب مع العصافير ويغنى حتى تعلّمه العصافيرُ الطيرانَ، مثلما كنتُ أحلمُ بتعلّم الطيران. لا أظن أن أطفال اليوم قد يفكرون على هذا النحو الساذج الذى كنتُ عليه فى الرابعة من عمرى.
وتوالتِ العقود وشاهدتُ الفيلم بعين النوستالجيا. زرقة بحر الإسكندرية، والرمال النظيفة والشماسى الملوّنة الجميلة، والبنات الجميلات يرتدين الفساتين، ويلعبن الراكيت والحبل والكرة ويغنين ويرقصن فى طفولة وعذوبة دون أن يضايقهن أحدٌ، ودون أن ينظر إليهن أحد باعتبارهن صيدًا سهلًا أو طرائد يهربن من عيون القناصين. كان الزمن نظيفًا وكانت العقول نظيفة والقلوب نظيفة.
صحيح أننى لم ألحق من ذلك الزمن إلا سنوات قليلة كنتُ فيها طفلة لا تعِى الكثير، وأمضيتُ صباى وشبابى فى الزمن «نصف النظيف»، لكن ثمة جيلٌ كامل لم ير أصلًا ذاك الزمان، إلا فى الأفلام «الأبيض والأسود»، التى صاروا يشاهدونها بعيون الاغتراب كما يشاهدون الأفلام الأجنبية التى تنتمى إلى مجتمعات غريبة وأزمنة غريبة، لا تمتُّ لعصرنا ولا لبلادنا بأى صلة. فى ذلك الزمن النظيف، كانت أمى تخرج بالكعب العالى والملابس الشانيل، وتضع الفرير حول كتفيها، دون أن تتفرّس العيونُ الجائعةُ فى جسدها، ودون أن ترميها الألسنُ الطولى بخادش القول، ودون أن يخشى عليها أبوها أو زوجها أو شقيقها من تحرّش أو بذاءة. كانت كعوب الأحذية رفيعة لا تنكسرُ فى الطرقات لأن الطرقات مستوية والأرصفة ممهدة للسير غير مستلبة بالإشغالات وضجيج الباعة. وكانت الأحذية البيضاء لا تتلوث فى الشوارع لأن الشوارع نظيفة. وكانت الأرواحُ لا تتصدع ولا العيونُ تشمئز ولا الآذانُ تنفرُ لأن المجتمع كان نظيف الروح والعقل والبدن.
أعرف أن معظم مَن يقرأون هذا الكلام الآن، سواء كانوا من جيلى أو من جيل أحدث أو أقدم، يفرّون من لحظتنا الحالية إلى الماضى النظيف عبر تلك الأفلام القديمة »الأبيض والأسود«. نبحث عن جمالنا المغدور فى وجوه جداتنا وأمهاتنا وأجدادنا وآبائنا. نبحث عن أناقة مصر المسروقة، فى أناقتها القديمة ونظافتها الغابرة التى قتلها الزمانُ. لا، خطأ!. الزمانُ لا يقتلُ جمالَ البلدان، بل المفترض أن يزيدها حسنًا وعراقة إن شاء ذلك أبناءُ تلك البلدان وأرادوا. البشر هم مَن يصنعون الجمال أو يقتلونه إن أرادوا. نحن مَن قتل أناقة مصر وحُسنها، وأوغلنا فى إزهاق روح نظافتها، حتى غدونا الآن نقولها مع زفرة حسرة ووجع: »آآآآه!، كان زمن جميل!، كان زمن نضيف!». الزمنُ الذى طلع فوق الشجرة، ولم يعد. علينا اليوم أن نستعيد حُسنَ مصر ونظافة عقلها وقلبها ونعيد بناء ما تهدّم من براءتها، ونحن قادرون على ذلك، و«الجمهورية الجديدة» تستحق. ودقوا الشماسى!.