بقلم - فاطمة ناعوت
هل ترى نفسَك صالحًا كامل الأوصاف، مثلما يرى معظمُ الناس أنفسَهم؟ إذن لماذا يكرهُك بعضُ الناس ويلصقون بك صفاتٍ قبيحةً لا تراها فى نفسك؟ أم ترى نفسك مليئًا بالعيوب والنواقص، ومع هذا فهناك مَن يحبك ويقدرك ويراك أرفع الخَلق وأسماهم؟ ليس للنسبية علاقةٌ بالأمر، بل هى «نسخنا» العديدة، ولا أقول «أقنعة».
أظنُّ أن لكلِّ منّا نسخًا ثلاثًا، لا واحدة. الأولى تمثل تصورك الخاص عن نفسك. والثانية يراها الآخرُ بعدسة شخصيته. وبما أن هذا الآخرَ كثيرٌ، فإن هذه النسخة تتشظّى إلى نسخ عديدة بتعداد معارفك. أما النسخة الثالثة فهى «أنت» الحقيقى. وهذه النسخة غالبًا غائمةٌ مُضللِة تكسوها الظلال، لا يعرفها أحدٌ حق المعرفة، ولا حتى أنت تعرفها حق المعرفة. ولهذا قال «سقرط» قولته، التى تبدو لفرط عمقها، ساذجة: «اِعرفْ نفسَك»، وكأنما يطلب المستحيل! لأن المرءَ قد يقضى كاملَ عمره دون أن يعرف نفسه. فمعرفة النفس ليست بالمهمة اليسرة كما يظن الناس، بل هى لغزُ الكون وسرُّ الإنسان الأعظم الذى أفنى فيه الفلاسفةُ حيواتهم ليصلوا إلى معايير تفكُّ شفرته، دون جدوى.
وثمة نسخةٌ رابعة «افتراضية»، هى محور مقالى، هى النسخة الأجمل منك. هى الصورة التى، حين تنظر إلى المرآة، ترجو أن تراها، وتتفرّس فى ملامحها وتقول: «ليتنى هذه الشخصية!» وربما خادعتَ نفسَك قليلا وظننتَ، أن تلك التى تراها الآن منعكسةً على صفحة المرآة المتلألئة، هى أنت ولا أحد سواك. هى الصورة التى تتمنى أن تكونَ عليها، وتفنى عمرك فى محاولة الوصول إليها. لهذا هى افتراضية، غير واقعية. مجرد صورة فى مرآة، كلما حاولت القبض عليها فرّت منك كما السراب الذى لا يُنال. لكن قليلًا من الناس يعرفون كيف يطاردونها حتى يمسكوا بها، ثم يقبضوا عليها، ويعضّوا عليها بالنواجذ، ثم يتلبّسوها، ويلبسوها، ويتدثروا بثوبها. فإذا ما ذاب ذلك الثوبُ الافتراضىُ فوق أجسادهم الواقعية واتحدّ بخلاياها، صاروا هى، وصارت هم. هنا فقط يقدر أولئك الأقوياء ذوو البأس أن يكونوا كما شاءوا هم، وليس كما شِىءَ لهم أن يكونوا. هم يعيدون خلق ذواتهم على النحو الذى يشتهون، وليس كما شاءت لهم الچيناتُ الوراثية والتربية الأسرية والتنشئة المدرسية والمجتمعُ والنصوص الموروثة والعادات والتقاليد.
هذا ما أسميه: «الاشتغال على النفس». إعادة تربية النفس على النحو الأمثل، لنجعل من أنفسنا صورًا أرقى من البشر. هنا يرمى بنا الحديثُ حول إشكالية هل الإنسان مُصيّرٌ أم مُخيّر؟ وهذا ليس موضوعنا على كل حال. إنما إعادة بناء ذواتنا على النحو الذى ننشد. وهو مطمح الفلاسفة منذ فجر الضمير الإنسانى. صورة «سوبر مان» أو «الإنسان الفائق» كما رسمه «نيتشه». الإنسان الفائق ذاك، يصنع الجمالَ، لأنه جمالٌ، ويتجنب الشرَّ، لأنه شرٌّ. لا طمعًا فى مكافأة، ولا خوفًا من عذاب. بل ببساطة يسعى لأن يكون متحضّرًا راقيًا لأنه يؤمن بأن الإنسان يجب أن يكون متحضّرًا راقيًا.
أعرفُ كثيرين ممن أثق أنهم قبضوا على صورتهم الأجمل، وتلبّسوها. مارتن لوثر كنج، جلال الدين الرومى، غاندى، طه حسين، الأم تريزا، ابن رشد، جبران، روزا باركس، مجدى يعقوب، وغيرهم الكثير.
وماذا نفعل بما لدينا من النسخ الأربع من ذواتنا؟ فى تقديرى يجب ألا ننشغل بالنسخ الثلاث الأولى. فالحقيقية مجهولة، لا جدوى من معرفتها. وصورتاك اللتان فى عين نفسك، وفى عيون الآخرين عمياوان، زائفتان، تحكمهما كثير من المعاملات الدخيلة مثل الذاتية والهوى والبغض والمصالح... إلخ. أما الصورة الافتراضية الأجمل التى تتمنى أن تشاهدها كلما شخصتَ فى المرآة، فهى التى، فى ظنى، يجب أن تكون طريدتَنا. هى التى لو ركزنا عليها اهتمامنا، إذن لربّينا أنفسنا وقوّمناها لنصير أجمل وأطيب وأرقى وأكثر إنسانية وتحضّرًا. ليتنا نقبض على صورتنا الأجمل فى المرآة، حتى نصير «إنسانًا».
ومن نُثار خواطرى:
■ ■ ■
(ظلال)
ثمّة أحلامٌ
تزرعُ القطنَ
فوق حوافِ النوافذْ
حتى يصيرَ الهجيرُ
صقيعًا
وبَرَدًا
يغسلُ الخطايا
ويحقِنُ الجدبَ بمائِنا
فتخفُّ قبابُ الروحْ
حتى نغدوَ
هواءً
بلا وطنٍ
يُدثِّر ظلًا
دون جسدٍ
يركضُ بعيدًا
فوق صفحةِ النهرْ