بقلم - فاطمة ناعوت
حلَّ الفنانُ «أحمد عدوية» ضيفًا على برنامج «كلمة أخيرة» مع زوجته ورفيقة رحلة كفاحه الطويل، ليحكيا نُثاراتٍ من ذكريات تلك الرحلة بثمارها الحلوة والمُرّة. وبكامل ثِقلِها الإعلامى أدارتِ: «لميس الحديدى» الحوارَ باحترافيةٍ أجادتْ توزيعَ الأسئلة بين الضيفين على نحو واعٍ. تمنحُ الزوجةَ الأسئلةَ الطويلة التى تتطلَّبُ إجاباتُها حكاياتٍ وسردًا لتفاصيلَ واستطراداتٍ، وتمنحُ «عدوية» أسئلةً قصيرة تكون إجاباتُها: «نعم» أو «لا» أو كلماتٍ قليلةً مُقتضبة لكيما توفِّرَ صوتَه «للغناء» الحىّ فى الاستوديو، مع فرقته الموسيقية، وليس Play-Back. ذكاءٌ يُحسب للمحاوِرة المُضيفة، ليس وحسب بسبب حالة «أحمد عدوية» التى تجعله عازفًا عن الكلام الطويل، بل بالأساس لأن المطربَ بشكل عامٍ «وُجِد ليغنى»، لا ليحكى. ذكّرنى هذا بأسطورة مصر السيدة «أم كلثوم»، وهى «الحَكّاءة العظيمة» والموسوعة الثقافية الثرية، حين كانت تعزفُ عن الكلام وتهربُ من اللقاءات التليفزيونية والإذاعية، قائلةً: «صوتى للغناء، لا للكلام». راحت المضيفةُ تنتقلُ بالأسئلة بين الزوجين، ثم مع الأحفاد، بخفّة فراشة تطاردُ خيوطَ الضوء وبريق الألوان، لتحصدَ أكبر قدرٍ من شذى الذكريات الحلوة، وعصيرها المرّ.
ما استوقفنى حقًّا ودفعنى لكتابة هذا المقال هو التحوّل المدهش فى حالة «أحمد عدوية» الكلامية ما بين: «الحكى» و«الغناء». فى «الحكى»: يكادُ يصمتُ، أو يُومئ برأسه، أو يرد بكلمة واحدة؛ حتى تظنّه رافضًا الحديث، فتلتقطُ الزوجةُ الذكيةُ الخيطَ وتُكملُ شريطَ الذكريات. أما فى «الغناء»، فكان «عدوية» لا يوفّرُ حنجرتَه، بل ينطلقُ حاضرًا بكامل قوّته الجسدية، وسِعته الكلامية، واثبًا بين المقامات والجوابات والقرارات بوافر حلاوة صوته وطلاوته، فتُجلجِلُ العُرَبُ وترنُّ البَحّةُ الصوتيةُ المميِّزة لملك الأغنية الشعبية: «أحمد عدوية».
هذا هو «الشغف»؛ الذى يُبدِّلُ حالَ الإنسان من الوهنِ إلى القوة، ومن العزوفِ إلى الإقبال والعزم، ومن الشحّ والتقطير فى الحديث إلى السخاء والاسترسال!. «الشغف» هو «المفتاح السحرى» لجميع البشر. ولكل إنسان شغفُه الخاص، فإن أردتَ أن تستحثَّ شخصًا لإفراغ كامل طاقته، ابحثْ عن «شغفه»، واضغطْ على زرّه. ولهذا نجحت هذه الحلقة التاريخية وكان استمتاعُنا بها فائقًا. بين لحظات «الغناء الحىّ» لعدوية، التى تتخلّلُ لحظات استعراض الزوجة لشريط رحلة طويلة قوامُها نصف قرن من الأمجاد والانكسارات، كانت فيها السيدة «ونيسة عاطف» السندَ والصخرةَ لزوجها الفنان، الذى شكّل حالةً فريدة فى مدوّنة الغناء المصرى والعربى منذ سبعينيات القرن الماضى، وحتى اليوم والغد.
لا أظن أن مطربًا قد حورِب وهوجم واختُزِل واغتيل معنويًّا وتعرّض للاستعلاء النقدى من قِبَل المثقفين، كما حدث لـ«أحمد عدوية»!. حملاتٌ جمعية حاشدة من التشويه والاغتيال الأدبى دُشِّنت لإسقاط عدوية فى السبعينيات والثمانينيات، واتُّهم بأنه السبب فى انحطاط الذائقة السمعية، وأنه إفرازُ حال الإحباط النفسى التى تلت نكسة 67، وإحدى ثمار الانفتاح الاقتصادى، الذى أغرق الشارع المصرى بالوحل الفنى وغيرها من الاتهامات من قِبَل مثقفين لا يعرفون إلا اللون الواحد والمطرب الواحد والأديب الواحد، غير قادرين على إدراك أن صفحة النهر جميلة فقط بسبب تلألؤ كريّات الماء بألوانها المختلفة تحت انعكاسات وانكسارات ضوء الشمس.
وأعترفُ بأننى كنتُ من أولئك المهاجمين فى صباى المبكر فى المرحلة الثانوية، كونى تربيتُ فى مدرسة «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«فيروز»، ولكننى انتبهت إلى موهبة «عدوية» الفطرية الآسرة بعد نضوجى الفكرى وإدراكى أن الحديقة ساحرة فقط بتنوع ألوان زهورها، وأن بين الأبيض والأسود ملايين الدرجات الرمادية، التى لولاها ما كانت الظلالُ التى ترسم جمال وجه العالم وسحره. ولم يرد «عدوية» على حملات الاغتيال، بل استمر فى مشواره نائيًا عن الجدل والمناطحة. وتحمّس له كبارٌ فى عالم الثقافة والفكر مثل الأديب «نجيب محفوظ»، وهو القادر على التقاط خيوط الفن من نسيج الحياة مهما اختلفت مشاربه، فقال: «إن عدوية يُطربه لأن صوته به حلاوة، ويغنى بكلمات من معجم الشعب». ولحّن لـ«عدوية» عمالقة كلُّ واحد منهم بمثابة «مجرّة» موسيقية ثقيلة الحمولة مثل: «بليغ حمدى»، «هانى شنودة»، «سيد مكاوى»، «كمال الطويل»، «عمار الشريعى»، «حسن أبوالسعود»، وغيرهم من عباقرة النغم. وكتب كلماتِ أغنياته شعراءُ كبارٌ، منحوا كلماتِهم لمطربين كبارٍ وضنّوا بها على مطربين آخرين، مثل العمالقة: «مأمون الشناوى»، «عبدالرحمن الأبنودى»، «صلاح جاهين»، «سمير الطاير»، بالإضافة إلى رفيق دربه: «حسن أبوعتمان». ولا يمكن أن نغفلَ شركاءَ «عدوية» فى صناعة تلك الظاهرة الفنية وهم أُسطوات الآلات الموسيقية المصاحبة لحنجرته: «ناى» سيد أبوشفة، «أكورديون» أبوالسعود، «رقّ» حسن أنور، «كمان» الأسطورة الفنية «عبده داغر».
لا شكَّ أن «عدوية» ظاهرةٌ متفردة لا تشبه إلا نفسها. صنع فى الشارع المصرى حالة مزاجية طربية لم تتكرّر. له «توقيعُه» الخاص، وبصمةٌ خاصة لم تتكرّر فى عالم الأغنية الشعبية.
شكرًا لبرنامج «آخر الكلام» لاستضافة هذا الصوت المنزوع من تراب الحارة المصرية، والذى أنتج لنا كل هذا الميراث من الفن الفريد، وكان الأب الروحى الحقيقى لكل مَن تلاه من سكّان بيت الغناء الشعبى