بقلم - فاطمة ناعوت
«نديم» الشابُّ «المتوحّد»، الذى خطف قلوبَ المشاهدين، وقلوبَ أمهاتِ أبناء «طيف التوحّد» خاصةً، برع النجمُ الواعد «طه دسوقى» فى أداء شخصيته على نحو فائق فى مسلسل «حالة خاصة»، الذى عرضته Watch it على منصّتها. مع الحلقة الأولى كتبتُ له: (كأننى أشاهدُ ابنى المتوحّد «عُمَر» بكل ما يحملُ من نقاء وذكاء وانطوائية، ونفور من الصخب و«الدوشة» والنفاق والوصولية). «المتوحدون»، العازفون عن المغانم والأضواء، الحالمون بعالم هادئ خالٍ من الأحقاد والجرائم والظلم، هم النسخة «الأنقى» من البشر. يوصمون بأنهم «مرضى»، بينما لو قرأنا «الكاتالوج»، الذى بُنيت عليه شخصياتُهم، لصار حُلمُنا محاولةَ تقليدهم، لكى نتحرّرَ من أدران المداهنة والطمع والحسد والوصولية والكذب وغيرها من الرَّداءات التى يمارسُها بعضُ الناس حتى يحصدوا مغانمَ دون تعب أو استحقاق.
لم أشاهد المسلسل كـ«متفرّجة» عادية، بل كـ«أمٍّ» أكرمها الله بمنحى طفلًا متوحّدًا، صار اليومَ شابًّا جميلًا يقاربُ «نديم» فى العمر. ولأن معى «كتالوج» نجلى المتوحّد «عمر» من أبناء Asperger الواقعين فى ASD أو Autism Spectrum Disorder، كنتُ أتوقّعُ أفعالَ «نديم» فى كل مشهد، قبل فعلها: ضبطَ الأشياء المنحرفة على المكتب، فهمَ المجازات بالمعنى «الحَرفىّ» للكلمات، تعفّفَه عن الكذب والنفاق تحت أى شرط، نفورَه من «دوشة» العالم والأضواء، استغناءَه عن المغانم التى يتقاتلُ الناسُ من أجلها.
برع «طه دسوقى» فى تلبّس شخصية «المتوحّد» بكل سلوكها الرفيع المترفّع، وكامل أدائها الجسدى فى نفوره من التلامس والتواصل البصرى مع الآخرين، والرغبة فى العزلة والهروب من العالم بـ«التوحّد» مع النفس والغرق فى الكتب والرسم والموسيقى لبناء عالم طوباوى هادئ بسيط؛ لا ضوضاءَ فيه ولا مشاحنات. وبالرغم من امتلاك «المتوحّد» عقلًا مركّبًا شديد التعقيد، يستطيع من خلاله حلّ أصعب المسائل الرياضية كما حال «آينشتين- نيوتن- إديسون» وغيرهم من عباقرة الرياضيات المتوحدين، وتركيب أعقد الجمل الموسيقية مثل «موزارت أماديوس»، ورسم أعقد اللوحات مثل «فان جوخ» و«ستيفن ويلتشر» وابنى «عمر»، وحلّ أعقد القضايا الجنائية كما شاهدنا المحامى المتوحد «نديم» فى المسلسل، إلا أنهم يمليون إلى خلق عالم بسيط لا بهرجة فيه ولا أضواء ولا صخب.
يُحسب للمسلسل إشارته إلى فلسطين عبر اسم الحبيبة السورية: «رام الله»، التى تحملُ حقيبة جلدية على شكل خريطة «فلسطين»، ودخلت المكتبة لتسأل عن رواية «أعراس آمنة» للروائى الفلسطينى «إبراهيم نصرالله». وجاءت تلك الإشاراتُ الرهيفةُ الثلاثُ: الاسم- الحقيبة- عنوان الكتاب، أقوى كثيرًا من التصريحات الحنجورية التى تُفرّغ القضايا الكبرى من جوهرها. ورغم الأداء الجيد للفنانة «هاجر السراج» ووجهها الذى يشعُّ براءة ورقّة، إلا أننى جزعتُ (كأمٍّ لشاب متوحد) من ارتباطها بـ«نديم» فى نهاية المسلسل، فالشخصية كما جسدتها الدراما: وصوليةٌ تخطّط لزواج بمصرى فقط للحصول على الإقامة، وسمحت لنفسها باللعب بأحلام ثلاثة رجال أحبوها، من بينهم رجلٌ متزوج!، فكيف أطمئنُ لارتباط شخصية مثل تلك بشخص متوحد طوباوى نقىٍّ، لا يعتمدُ من الحياة إلا شقَّها الطيب الحَسن؟!. كنت أفضل عدم إثقال المسلسل ببعض الخيوط الدرامية، من أجل تكثيفه وإبراز الهدف الأساسى، وهو: «تسليط الضوء على تلك الكائنات النورانية التى تحيا بيننا من أبناء طيف التوحد». الفنانة الجميلة «غادة عادل»، المحامية اللامعة التى برعت فى أداء دورها، وتشخيص القلق على مستقبل طفلها المتوحد «علىّ»، وبالرغم من جمالها وتفوقها المهنى واهتمامها بأسرتها، إلا أن زوجها يخونها!، ومن بين مَن خانها معهن «رام الله»، حبيبة «نديم»!. هذا الخيطُ كان إثقالًا للدراما وتشويهًا للشخصية التى سوف تُكمل الطريق مع «المتوحد» النقىّ!، وغير ذلك من الخطوط الدرامية المتشعبة، والزائدة عن حاجة مسلسل قصير من حلقات عشر، يروم التكثيف ولا يحتملُ كلَّ تلك التشعبات غير المشبّعة دراميًّا.
«جميل» صاحب المكتبة «النقى»: الصديقُ الأوحد والأبُ الروحى ومدرّسُ الظلّ للشاب المتوحد، أدّى دورَه ببراعه الفنان «نبيل على ماهر». وبرحيله صار العالمُ خاويًا ليبدأ «نديم» مرحلة جديدة من الاعتماد على النفس، بل يصير هو «مدرس الظل» Shadow Teacher للمتوحد الطفل «على»؛ لكى تستمرَ دائرةُ التواصل الإنسانى بين «الأنقياء». ونجح الطفل الموهوب «آدم النحاس» فى أداء دور «نديم» طفلًا متوحدًا يتلمّسُ خُطاه الأولى فى الحياة، بكامل عبقريته الفطرية التى لم تعفِه من تنمّر الرفاق الصغار، الذين لم يعرفوا «كتالوج» التعامل مع هذه الشخصية الاستثنائية «غير العادية».
من أهم مقومات نجاح المسلسل كانت الموسيقى التصويرية الساحرة، التى تفيضُ طفولةً وبهجة وحياةً للموسيقار العبقرى «هانى شنودة»، وأغنيات فريق «المصريين» التى كان «نديم» يهربُ إليها من صخب العالم. شكرًا للدراما المصرية التى بدأت فى تسليط الضوء على المتوحدين؛ لكى يُدرك الناسُ طبيعة تلك الكائنات النورانية التى تحيا بيننا، دون إعلان عن نفسها.