بقلم - فاطمة ناعوت
غدًا، ٨ مارس، اليوم العالمى للمرأة. وبدعوة طيبة من «المجلس القومى للمرأة»، احتفلنا أمس مع السيدة الجميلة «انتصار السيسى» بهذا الحدث الطيب فى دار الدفاع الجوى فى حشد نسائى جميل حمل عنوان: «المرأة المصرية أيقونة النجاح»، وهذه حقيقة يشهدُ عليها التاريخُ وتشهدُ عليها اللحظة الراهنة، ففى جميع صور النجاح والتحقق، لابد أن تلمح فى خلفية المشهد «امرأة» جادة: إما تكون هى صانعةَ النجاح، أو تكون هى الدافعة لزوجها أو ابنها أو شقيقها أو تلميذها ليكون صانعه. وشكرًا للجمهورية الجديدة والقيادة السياسية، التى وضعت المرأة المصرية اليوم فى المكانة التى تليق بها لتكون صانعة قرار فى عديد من المناصب الحيوية فى الدولة المصرية.
واليوم، قررتُ أن أحتفل باليوم العالمى للمرأة على طريقتى الخاصة، عن طريق صور جميلة من ألبوم العائلة.
فى صالون بيتى، صورةٌ بالأبيض والأسود لأمى فى ثوب الزفاف. العدسة لمصور فوتوغرافيا أرمنى مصرى شهير اسمه «فان ليو» Van Leo، أظن أن محلّه مازال موجودًا فى أحد شوارع وسط البلد العريقة. كانت أمى مفتونةً بالفنانة الجميلة «فاتن حمامة»، مثل معظم بنات جيلها. حتى إنها سمتنى «فاتن»، وبقيتُ بهذا الاسم شهورًا، حتى عادت جدتى الجميلة من رحلة كانت ترافق فيها جدى، المهندس المعمارى، الذى كان يعمل بمدينة «جدة» السعودية. وفى جلسة صفاء، عاتبت جدتى أمى لأنها لم تسمِّ طفلتها الوحيدة، التى هى أنا، على اسمها: «فاطمة». ولم تتحمل أمى الجميلةُ عتاب أمِّها الجميلة، فغيرت اسمى من «فاتن» إلى «فاطمة»، لكنها ظلت طوال الوقت تشعر أنها «خانت» عشقَها لـ«فاتن حمامة»!.
كانت أمى تذهب إلى الخياطة «اليونانية» لكى تفصّل لها فساتينها من كتالوج أفلام «فاتن حمامة». وفى الاستعداد لحفل زفافها إلى أبى، طلبت من الخياطة أن تصمم لها ثوب الزفاف مشابهًا لثوب زفاف «فاتن حمامة» فى فيلم «سيدة القصر»، وأمام عدسة «فان ليو»، جلست العروسُ الجميلة: «سهير»، التى ستغدو أمى، نفس جلسة «فاتن حمامة» فى صورة عُرسها بالفيلم، وكانت هذه الصورة الرائعة التى تستقرُّ على حائط بيتى الآن بتوقيع «Van Leo».
وفى صالون بيتى صور أخرى لأمى، بالأبيض والأسود، فى فساتين أنيقة لا تشبه ما نراه اليوم من ثياب النساء. كانت الفساتين جميلة، رقيقة، تلبسها البنات فيشبهن الفراشات، كأنهن باليرينات رشيقات لا يمسسن الأرضَ بأقدامهن، بل يطرن ويكدن يلمسن السماءَ بأطراف أناملهن.
ربما لهذا نحبُّ أفلام زمان، الأبيض والأسود. حيث البشر راقون، والألسن نظيفة لا تعرف إلا المعاجم المهذبة، والبنايات منظمة منسّقة، والشجر كثيف أخضر يرمى بظلاله على شوارع نظيفة مرتبة، التماثيل فى الشوارع مغسولة مصقولة، الرجال أنيقون مهذبون، والسيدات فاتنات فى ملابسهن الأوروبية بالكعوب العالية والحقائب التى كأنها قطعٌ تشكيلية من الفن الرفيع. ورغم الملابس القصيرة، لم يكن هناك تحرش ولا بذاءة ولا «معاكسات». فى أحد الأيام، كنت أتصفح ألبوم صور أمى القديم، فشاهدت صورة لها مع شقيقتها فى حديقة عامة. كانت أمى فى فستان ساحر بخصر ضيق وجيب واسعة كلوش وكولة رقيقة وبلا أكمام. سألتها: «مكنش حد بيعاكسك وأنت خارجة كده يا ماما؟»، فابتسمت وقالت: «على أيامنا مكنش فيه فى قاموسنا كلمة اسمها (معاكسة). كان الشباب محترمًا ولا يرفع عينه فى وجوه البنات. كنا فى زمن برىء. الكل يحترم الكل. والشاب يعتبر كل البنات السائرات فى الطريق شقيقاته». صدقتِ يا أمى، الفضيلة والتحضر واحترام المرأة، ثقافةٌ وليست ملابسَ. الأخلاق سمو روحى وتحضر وتربية، وفى الأول والأخير «قرار شخصى» منبعه احترام النفس واحترام خلق الله.
أحبُّ تلك المدرسة فى الأزياء. إن التقيتَنى، سوف تجدنى إما فى ملابس كاجوال سبور خفيفة: أى جينز وحذاء رياضى وتى- شيرت لزوم العمل وسرعة الحركة، أو فى فستان ستينىّ من ملابس أيام الجمال والشياكة: «الأبيض والأسود». لكن الحصول على تلك الفساتين الآن ليس بالأمر اليسير. كانت المرأة القاهرية على رأس أنيقات العالم زمان الأبيض والأسود. وكانت القاهرة، حتى منتصف القرن الماضى، مدينة الأناقة والشياكة. حتى إن أميرات الشرق كنّ يأتين إلى مصر لكى يتسوقن ملابسهن من محالّ مصر. إحدى تلك الأميرات كانت سببًا فى حل مشكلة أمى مع اسمى: «فاتن»، الذى أُجبرَت على تغييره إلى «فاطمة»، إرضاءً لجدتى.
كان أبى يطالع صحيفة الأهرام، حين كان عمرى شهورًا قليلة، فقرأ «مانشيت» يقول: «وصول الأميرة الإيرانية (فافى) إلى القاهرة فى رحلة تسوّق من بيوت الأزياء المصرية»، فهتف أبى: «خلاص يا ستى، لقيت لك حل!، ندلّع البنوتة بـ(فافى)»، ويبقى الوسط بين «فاتن» و«فاطمة». وقد كان. وهو اسمى الذى تنادينى به عائلتى وأصدقائى وجيران الطفولة. طوبى للفساتين الجميلة. وطوبى للمرأة المصرية، أيقونة النجاح