توقيت القاهرة المحلي 10:37:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أيّها الوحيدون.. اصنعوا زحامَكم!

  مصر اليوم -

أيّها الوحيدون اصنعوا زحامَكم

بقلم - فاطمة ناعوت

فى مقالى الاثنين الماضى بنافذتى هذه بـ«المصرى اليوم»، كتبتُ عن دفء العائلة الذى نتنعّمُ به فى إجازات الأعياد. ويبدو أن مقالى ذاك قد جرح بعض الناس ممن تَمزّقَ عنهم ثوبُ الأسرة، فوخزتهم لسعاتُ برد الوحدة والهجر، بسبب رحيل الأحباء أو سفر الأبناء أو عقوقهم. وصلتنى عشراتُ الرسائل تحكى هموم كاتبيها ممن غدت الأسرةُ بالنسبة لهم مجرد جدرانَ باردةٍ فى بيتٍ صامت. لهذا أكتبُ لهم هذا المقال كنوع من الاعتذار، لا لكى يتعزّوا به، بل لنتأمل قدرتنا البشرية السحرية التى منحها لنا اللهُ فى خلق الزحام من صحراء الوحدة والهجر.
أقولُ لمَن جرحهم مقالى «العيد، العائلة، الجنّةُ التى على الأرض» إن اجتماع الناس حول مائدة الأسرة شحيحٌ بسبب دوامة الحياة المتسارعة. ولكن بوسعنا «خلق الزحام» على «أطلال الوحدة». ودعونى أحكى لكم ملخص حوار دار بينى وبين صحفية كندية فى حفل توقيع بعض كتبى قبل أعوام فى تورونتو الكندية. سألتنى الصحفيةُ: «سيدتى، هل تُحبين الوحدةَ والسكون؟ أم تفضّلين الوجودَ بين الناس والصخب؟»، فأجبتها: «أحبُّ الاستمتاعَ بالوحدة، وسط الحشود. والاستمتاعَ بالزحام فى وحدتى». وطلبتِ الصحفيةُ توضيحًا، فقلت لها:

«فى منزلى الصغير بالقاهرة، يعيش معى مليون إنسان يملأون يومى صخبًا وقلقًا وحبًّا ومعاركَ وضحكًا وعشقًا ومشاكساتٍ وحروبًا؟! أحيانًا لا أكادُ أجد مقعدًا شاغرًا فى منزلى للجلوس، وفى أحايين أخرى لا أجد مكانًا للنوم على سريرى، من فرط الزحام! فأضطرُ أن أنام فى غرفة المكتب، جالسة على مقعدى ورأسى ساقط فوق أكوام الورق على سطح المكتب. يعيش فى منزلى أبوحيّان التوحيدى وابن عربى وغاندى وأفلاطون وأرسطو وابن رشد وبورخيس وطه حسين وسارتر وبرنارد شو وأكتافيو باث وشمس الدين التبريزى وجلال الدين الرومى وسيزان وشوبان وشتراوس وموتسارت وفيفالدى وينّى وكالفينى وسيلفادور دالى وبيكاسو وهارولد بنتر ومكسيم جوركى وفرجينيا وولف وموليير وإيميلى ديكنسون وجبران والأخطل وجورج أوريل وفوكو وديكارت ونزار قبانى وأحمد عبدالمعطى حجازى وعبدالصبور وزكى نجيب محمود وعبدالعزيز المقالح والسياب ونازك الملائكة والنفّرى ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم. حتى «ماركى دو ساد» خصصتُ له ركنًا معتمًا فى بيتى يليق بجحوده. الشهر الماضى قضيتُ يومى أفضُّ معركة بين مارتن لوثر كينج وهتلر. ناصرتُ الأول وشبكت زهرةً فى عروة قميصه، وركلتُ الثانى، فانزوى وبكى. وقبل أسبوعين أنصتُّ إلى جوديث شقيقة وليم شكسبير، وهى تقول له باكيةً: «أنا أكثرُ منك موهبةً، لولا أنك ولدٌ وأنا بنتٌ فى مجتمع يظلم النساء. ظلمنى نوعى فلم أشتهر، وأنصفك نوعك فاشتهرتَ»، فابتسم ولم يُجب، ثم التفت معى إلى معركة ساخنة بين ابن تيمية وابن عربى، انتهت بأن مزّق كلٌّ منهما مخطوطاتِ الآخر.

ولكم أن تتخيلوا حالَ بيتى بعد تلك المعارك بين العقول التى تسكن معى، والتى تُسفر دائمًا عن مزهريات مهشمة، ووسائد ملقية هنا وهناك، ومقاعد مقلوبة وآراؤك تقفُ كالتوابيت فى ساحة الوغى. بيتى يُعوزه الهدوء. وفجأةً يصدح فيولين تشايكوفسكى مع صوت فيروز تغنى للعصافير واليمامات التى تزور شرفتى كل صباح تقول لى: «صباحك سكر يا فاطمة»، ثم تطيرُ بعدما تلتقطُ القمح من كفّى. تملأ عينى ألوانُ بيكار ومختار وحليم ووانلى. العام الماضى قضيتُ عدة نهارات أصلحُ إحدى طواحين «فان جوخ» الهوائية بعدما تدلَت ريشةٌ من طاحونة وكادت تسقط من اللوحة على الأرض. وبعدما أصلحتُها فرح جوخ وكافأنى بثلاثة عيدان قمح من إحدى لوحاته لأخبز بها رغيفًا لعشائى مع زُراع البطاطس الفقراء. وبعد العشاء، استأذنتُ بيتهوفن فى عزف «فور إليس» على بيانو فى لوحة «بولديني»: لابيانسيتا. قبل النوم، انتبهت على صخب وهرج ومرج فى قاعة المعيشة! فإذا بها معركةٌ عنيفة بين رينوار وماتيس، حيث غضب الأول لأن الثانى وضع باللوحة لونًا أسودَ، والأسود، فى رأيه، ليس لونًا بل بقعةٌ من الخواء أو مِزقٌ فى اللوحة، وأصرَّ الثانى على أنه سيدُ الألوان! ثم تجاوز ماتيس فى غِيّه ورسم عنقًا طويلا لرجل ولوّنه بالأخضر، حتى يغيظ رينوار. صالحتهما معًا لأننى أحبهما معًا، ولم أناصر أحدًا على أحد فغضبا منى كلاهما وخاصمانى! غدًا أصالحهما بكعكة شيكولاتة وأهدى كلا منهما علبة ألوان جديدة. بيتى صغير جدًّا، ومزدحم جدًّا. زحامٌ فى بيتى، لكن لا أحد. أولئك الذين يشاركوننى البيت لن يبكوا علىّ حين أموت، فهم لا يعرفون الدمع، لأنهم جميعا صنّاع فرح.

أيها الوحيدون، اصنعوا زحامكم الخاص من الكتب والأسطوانات، واستضيفوا طيورَ السماء فى شرفاتكم وامنحوها بعض القمح.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أيّها الوحيدون اصنعوا زحامَكم أيّها الوحيدون اصنعوا زحامَكم



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon