توقيت القاهرة المحلي 10:37:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لماذا تدنّى مستوى خطابِنا؟

  مصر اليوم -

لماذا تدنّى مستوى خطابِنا

بقلم - فاطمة ناعوت

حواراتُ الناس على وسائل التواصل الاجتماعى صارت مخيفةً ومروّعة!، حال الاختلاف فى الرأى، غابت عباراتٌ مثل: «اسمح لى أن أختلف معك، لدىَّ رأى مغاير، هل أُحيلك إلى كتاب كذا الذى يقول رأيًا مختلفًا؟..» إلخ، واحتشدت مقاطع الفيديو والبوستات وخاناتُ التعليقات بالسباب والشتائم والتكفير والخوض فى الأعراض والتهديد!. كيف وصلنا إلى هذا؟!. والمدهش ليس فى كيف وصلنا إلى هذا، بل أن هذا (الهذا) لم يعد يدهشنا أو يزعجنا، تمامًا مثلما تعودنا على مشهد أكوام القمامة فى شوارعنا ولم تعد تُدهشنا أو تجرح عيوننا، بعدما كانت ورقةٌ صغيرة ملقاة فى الطريق تُدهش المارّة قبل ١٠٠ عام، حين حصلت القاهرةُ عام ١٩٢٥ على وسام: «أنظف عواصم حوض البحر المتوسط وأوروبا». تصوروا!.

صديقى الدكتور «كمال الإخناوى»، الأستاذ بالجامعة الأمريكية، أحد خبراء تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية ثانية للناطقين بالإنجليزية، أرسل إلىَّ رسالة يُذكرنى فيها بمقال قديم لى عنوانه: «كيف سمحنا بأن نسقط؟»، وكان المقال يناقش كيف تتأثر لغة الحوار بالبيئة المحيطة. حكيتُ عن الشاعر «علىّ بن الجهم»، الذى جاء إلى بغداد، وكتب قصيدة فى مديح الخليفة، قائلًا: «أنتَ كالكلبِ فى حفاظِكَ للودِّ/ وكالتيْسِ فى قِراعِ الخُطوبْ/ أنتَ كالدلوِ، لا عَدِمناكَ دلوًا/ من كبارِ الدِّلا كثير الذنوبْ». والذنوب هنا هى كثرة سيلان الماء وغزارته. اندهش السامعون واستنكروا فظاظة المفردات: »كلب- دلو- تيس«، وكيف تتفق ومديح؟!، لكن الخليفة العباسى المثقف »أبوالفضل جعفر المتوكل« لم ينزعج لأنه يعرف أن »ابن الجهم« شاعرٌ صحراوى لم يرَ من الحضر الكثيرَ؛ وطبيعى أن يستلهم مفرداته من معجم البداوة، فأدرك مقصده الطيب، على خشونة لفظه التى فطرتها قساوةُ البادية وجدب الصحراء التى لم يرَ سواها، فأمر له بدار جميلة تُطلّ على شاطئ نهر دجلة، بها حديقة غنّاء حاشدةٌ بالعصافير والزهور والثمر، وأغدق عليه بطيّب الطعام والملبس ورغد الحياة. وبعد إقامة الشاعر شهورًا ستّة فى الحضر ومخالطة أدبائه وشعرائه، استدعاه الخليفةُ إلى البلاط، وطلب منه أن يلقى بعضَ الشعر، فقال »ابن الجهم«: (عيونُ المَها بين الرصافةِ والجسرِ/ جَلَبنَ الهوى من حيثُ أدرى ولا أدرى/ أعدنَ لى الشوقَ القديمَ ولم أكنْ/ سَلوتُ ولكن زِدنَ جمرًا على جمرِ/ سَلِمنَ وأسلَمنَ القلوبَ كأنّما/ تُشَكُّ بأطرافِ المثقّفةِ السُّمرِ/ وقُلن لنا نحنُ الأهِلَّةُ إنما/ تُضىءُ لمَن يسرى بليلٍ ولا تقرى/ فلا بَذلَ إلا ما تَزَوَّدَ ناظرٌ/ ولا وَصلَ إلا بالخيالِ الذى يَسرى».

هكذا أدرك الحاكمُ الفَطِنُ أن «اللسان» ابنٌ أصيلٌ لما ترى العينانُ وتسمعُ الأذنان، فإن جلبتَ توأمين أنشأتَ أحدَهما فى بيئة حوشية رثّة، وترعرع الآخرُ فى بيئة متحضّرة راقية، ثم التقيا بعد عشرين عامًا، ستدركُ أن الفارق بين معجمى الشقيقين هو الفارقُ ذاتُه بين البيئتين اللتين نشآ فيهما كلاهما.

ربما هذا يقدّمُ لنا التفسير عن اختلاف معاجمنا الراهنة عن معاجم آبائنا وأجدادنا الذين تربّت آذانُهم على أم كلثوم وعبدالوهاب، وعقولُهم على طه حسين والإمام محمد عبده، وعيونُهم على أنيق الثياب نظيفِ الأمكنة، فيما عشنا نحن الزمن الصعب الذى تعجُّ فيه الآفاتُ الصوتية والفكرية والبصرية.

نحن أبناءُ بيئتنا. وألسننا أصداءٌ لما نسمع، وعيوننا مرايا لما نشاهد، وأفكارنا مرايا لما يقتحم أرواحَنا من أناقة وجمال، أو من دمامة وقبح.

لهذا لا تبرحُ قلبى مقولةُ أفلاطون: «علّموا أولادَكم الفنون، ثم أغلقوا السجون»، ذاك أن الفنونَ تُهذِّبُ الروحَ وتمنع الجريمةَ. لهذا اقترحتُ أن يأتوا بالمجرمين والمتطرفين والمتحرشين والخارجين عن القانون إلى دُور الأوبرا ليسمعوا الموسيقى ويشاهدوا الباليه حتى تتنقّى أرواحُهم وتتهذّب سلوكاتُهم وتترقى معاجمهم. سخرَ منى مَن سخر، واعتبرونى أعيشُ فى برج عاجى لا يمسُّ الأرضَ الموبوءة بالشرور. ربما. لكن فكرتى حدثت، ونجحت. صنعها المايسترو المصرى الجميل «نادر عباسى». هذّب أرواحَ مجرمين عُتاة فى أوروبا حينما زارهم بكامل فريق الأوركسترا الفيلهارمونى فى سجن بوميت بمارسيليا، بدعوة من الحكومة الفرنسية، وعزفوا أمام ١٥٠٠ سجين كونشرتات عذبة بمناسبة أعياد الربيع، منها ڤالسات: الدانوب الأزرق وكسارة البندق وبحيرة البجع وكارمن‏. بعدها بعامين كان المايسترو المصرى يتجول ليلًا فى شوارع مارسيليا، فاستوقفه رجلٌ على موتوسيكل، وقال له: «ألَا تعرفنى؟، أنا أحد سجناء (بوميت). بفضلك أنا الآن مواطنٌ صالح. أحرص على زيارة الأوبرا أسبوعيًّا مع أطفالى».

سألتُه أن يكرر التجربة فى مصر، واستطعتُ أن أقتنص منه وعدًا بزيارة السجون والمدارس ودُور الأيتام. أرجو أن تتبنى الحكومة المصرية تلك الزيارات للمدارس والمشافى والسجون حتى يرتقى معجمُنا من جديد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا تدنّى مستوى خطابِنا لماذا تدنّى مستوى خطابِنا



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon