بقلم - فاطمة ناعوت
كالعادة، مرَّ بالأمس «عيدُ الأب» دون أن ينتبه أحدٌ!. «الأحد الثالث من شهر يونيو» من كلّ عام هو اليومُ العالمى للأب. وأُهدى هذا المقالَ لأبى المتصوّف الجميل الذى علّمنى أن أُحبَّ جميعَ خلق الله، دون استثناء ودون حساباتٍ ودون سبب لأن حبَّ «الخَلقِ» فرعٌ من حُبِّ «الخالق» ودليلٌ عليه. فى طفولتى كان أبى يقول لى: الأسرةُ الصغيرة تسكنُ فى المنزل، والأسرةُ الكونية تسكنُ الكون. ولهذا فجميعُ البشر أسرةٌ واحدة، فتعلّمتُ أن أذهب إلى مدرستى كل صباح لألتقى بأشقائى التلاميذ، وأمهاتى وآبائى المعلماتِ والمعلمين والدادات والسُّعاة وحرّاسِ البوابات وسائقى باصات المدرسة. وتعلّمتُ أن أبتسمَ فى وجه جميع مَن ألتقى بهم فى الطريق، فهم جزءٌ من أسرتى الكونية، وإن كنتُ لا أعرفُ أسماءهم.
والحقُّ أن هذا هو أعظمُ درسٍ علمنيه أبى، وإن لم يعلمنى سواه لكفاه. لهذا أُهدى حبى ومقالى عن «عيد الأب» إلى جميع آبائى الروحيين الذين علّمونى ودعمونى على مدار حياتى، وإلى أبى الحقيقى «أجمل أبٍ فى الدنيا». وأعلمُ أن العديدَ ممن يقرأون الآن هذه العبارة يهمسون سرًّا أو يهتفون جهرًا: «بابا هو أجملُ أب فى الدنيا!»، وبهذا فالمقالُ مُهدًى لكل هؤلاء وأولئك. كل عام وكلّ أبٍ حنون وداعم لأبنائه بخير.
جميعُ الأدبيات فى ثقافات العالم «دلّلت» الأمَّ ووضعتِ «الأمومة» دُرّةً على تاج العلاقات الإنسانية. وجميع العقائد والأديان والفلسفات الوضعية كرّمتِ «الأمَّ» وأسكنتها المكانةَ الأرقى بين البشر. وقصائدُ الشعراء، ورواياتُ السُّرّاد، والأغنياتُ، والأمثالُ الفولكلورية، والدراما، وغيرها من همساتِ البشر فى آذان البشر، أوسعتِ الأمَّ كتابةً وتصويرًا وتمجيدًا وتخليدًا. وهى دون شكّ تستحق كلَّ هذا وأكثر، فالأمُّ رمزُ الإيثار، وهى منذورةٌ لأعسر وأجمل وأشقّ وأنبل مهمة بيولوجية وإنسانية يؤديها كائنٌ حىّ تجاه كائن آخر. أن يَخلُصَ من جسدها جسدٌ، ومن نفسِها نفسٌ، ومن قلبها قلبٌ، ومن روحها روحٌ، مثلما تتشقّقُ زهرةٌ وتتقشّر أنسجتُها ليُشرق منها برعمٌ وليد. ثم لا تكتفى الأمُّ بهذه المُعجزة الفريدة، بل تُكملُ دورَها القدسىَّ فى إنبات ورعاية براعمها؛ حتى تستوى الزهورُ على أغصانها، تسرُّ الناظرين.
وفى أثناء الرحلة، يُنسَى الأبُ. وقلّما يتذكرُ أنه يُنسى. يتواضعُ عن معرفه مكانه ومكانته. لماذا؟. لأن الأبَ كذلك يدورُ فى فَلك أمّه، فقد كان هذا الأبُ طفلًا يحبُّ أمَّه ويرتمى فى حضنها إن غاضبه طفلٌ مشاكسٌ، أو نهره الأبُ، أو عنّفه المعلم. مبكرًا علّمته الحياةُ/ «الأمُّ» أنه سوف يأتى بعد الأم، حين يصبح مع الأيام أبًا.
والشاهدُ أن الأبَ الحقيقىَّ لا يعبأُ بالتكريم، بل يهتمُّ أكثرَ بتكريم الزوجة التى صارت فى بيته أُمًّا، أنجبت أطفاله وأنشأتهم التنشئة الحسنة. الأبُ الكريمُ لا يشعرُ بالأبوّة لصغاره وحسب، بل كذلك للجميلة التى جعلته أبًا، وصارت لصغاره أمًّا.
«عيدُ الأب» للآباء الحقيقيين الذين يستحقُّون التكريم، لا الآباء الذين ينجبون عديد الأطفال، كأى كائن حى، ثم ينسون صغارَهم فيما ينسون، ويتركون عبئهم للدولة. أهدى هذا المقال مع باقة زهر لكل أب يرعى صغاره حتى يصيروا رموزًا يفخرُ بهم هذا الوطن الطيب، ويحبُّ ويحترم ويحتوى زوجتَه، تلك الجميلة التى حملها إلى بيته صَبيةً صغيرة، فصارت فى بيته أُمًّا يلتفُّ حولها صغارُه.
دعونى أقصُّ عليكم حكاية: «عيد الأب»، وكيف نشأ. صبيةٌ أمريكية طيبة اسمها «سونورا لويس سمارت دود» وُلدت عام ١٨٨٢، وقبل بلوغها عامها السادس عشر، رحلت أمُّها وهى تضعُ طفلها السادس، ليتولّى أبوها المزارع البسيط مسؤوليتها وأشقائها الخمسة، وحيدًا.
كانت تستمع فى أحد الآحاد من عام ١٩٠٩ إلى عظة دينية عن «عيد الأم»، فوخز قلبَها أن الحياةَ نسيت أباها العظيم، الذى كان لأسرتها أمًّا وأبًا يعمل فى الحقل ويطهو لهم الطعام ويغسل ملابسهم ويسهر على استذكارهم، فما كان منها إلا أن كتبت عريضة مطولة تكلمت فيها عن مكانة الأب فى حياة أطفاله، وأوصت فى نهاية عريضتها بتخصيص يوم للاحتفال بالأب، أسوةً بعيد الأم العالمى الخالد، العابر للجغرافيات والأزمان. واقترحت «سونورا» أن يُدشّن عيدُ الأب يومَ عيد ميلاد أبيها. قدمت الفتاةُ العريضة للائتلاف الحكومى لمدينة سبوكين، فأيدت فكرتَها بعضُ الفئات المجتمعية فى ولايتها.
وفى العام التالى احتفلت مدينة «سبوكين» بولاية واشنطن بأول عيد أب فى العالم يوم ١٩ يونيو ١٩١٠. ثم جاء عام ١٩٦٦ ليُصدر الرئيسُ الأمريكى «ليندون چونسون» مرسومًا رئاسيًّا بأن يكون «الأحدُ الثالث من شهر يونيو» هو العيد الرسمى للأب. ورغم مرور أكثر من قرن على تشدينه، يظلُّ عيدًا خجولًا يأتى ويمضى على استحياء، دون أن يتذكره أحدٌ. كل عام وكلّ أبٍ «حقيقى» بخير وفرح.