توقيت القاهرة المحلي 10:22:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نذكرُ العظماءَ.. وننسى قاتليهم

  مصر اليوم -

نذكرُ العظماءَ وننسى قاتليهم

بقلم - فاطمة ناعوت

للتاريخ مصفاةٌ قاسيةٌ حاسمةٌ عمياءُ لا تعرفُ المجاملة. تُسقط الحَصى الرخيص، وتُبقى الدرَّ الثمين. يذكرُ التاريخُ فرائدَ العظماء، ويمحو من مدونته النكراتِ الذين قتلوهم أو كفّروهم. لهذا نبتسمُ في إشفاق حين يلاحقُ البلداءُ العظماءَ، ويقضون أعمارَهم في محاولات دؤوب لجرّهم إلى السجون واغتيالهم معنويًّا لأننا نعرف أن العظماءَ باقون، وإن قضوا نحبَهم في عتمات السجون، والبلداءَ منسيون، وإن عاشوا ألف عام.

هل تعرفون اسمَ قاتل شاعر العرب «أبى الطيب المتنبى؟»، كلا، إنما نعرفُ «المتنبى» لأن قصائده تملأ الدنيا ولا يخبو جمالُها مع الزمن بل تزداد بريقًا. هل تذكرون اسمَ الأمى الذي اغتال المفكر «فرج فودة»، والذى أفتى آثم قلبُه بقتله؟، كلا، بل نعرفُ «فرج فودة» لأن مشعله لا يزال وهّاجًا يضوى، رغم العقود. هل تعرفون شيئًا عن قاتل عالِمة الذرة النابغة «سميرة موسى» في أحد وديان أمريكا الموحشة؟، لا، لكننا نعرفُها ونشعرُ بخسارتنا الفادحة بفقدها، ونعلم حجم ما كانت ستؤديه لمصر لو لم تغْتَلْها يدٌ آثمةٌ وهى في عمر الزهر المشرق. هل تعرفون اسم الذي كفّر «سقراط» و«جالى ليو» وحكم عليهما بالموت؟، كلا، نعرف الفيلسوفَ «سقراط»، والعالِمَ «جالى ليو» ونحفظ أعمالهما. هل يعرفُ أحدُكم اسمَ شانق «عمر المختار»؟، أبدًا، نعرفُ «المختار» ونذكر مقولتَه العميقة أمام أنشوطة المشنقة: «سيكون عمرى أطولَ من عُمْرِ شانقى»، وقد صدق. هل يعرف أحدٌ منكم اسمَ صالب «الحلاج» أو قاتل «السهروردى» أو الذين سحلوا «هيباثيا» من جدائلها حتى تمزّق لحمُها؟، هل تعرفون أسماء الذين كفّروا «ابن عربى» و«ابن الفارض» و«ابن رشد» و«ابن المقفع» و«لسان الدين الخطيب» و«نصر حامد أبوزيد» و«طه حسين» وغيرهم؟، كلا كلا، بل نعرف جيدًا جميع مَن ذُكرت أسماؤهم من رموز مضيئة في مدونة التاريخ، ولا نعرفُ شيئًا عن قاتليهم ومُكفّريهم؛ لأنهم بلداءُ خاملون لا منجزَ لهم إلا هدر الدماء وترويع الآمنين. وقد أكّد لنا التاريخُ بالفعل مقولةَ «عمر المختار»: إن أعمارَ العظماء أطولُ كثيرًا من أعمار قاتليهم.

هل تذكرون اسمَ البليد الذي طعن «نجيب محفوظ» بخنجر جهول في تسعينيات القرن الماضى؟، هل تعرفون أسماء الشيوخ الذين أهانوا تراثَ الرجل الفريد، وطالبوا بمصادرة رواياته؟، لا، لا نعرف طاعنَه، ولا نعرف مُكفريه، لكننا نعرف جيدًا مَن هو «نجيب محفوظ» ونكاد نحفظ رواياته ونرى شخوصها تعيش بيننا، ونعرف أنه مازال حيًّا رغم احتفالنا بالذكرى ١٧ على رحيله إلى حيث عالم شاسع رحب، لا يضيق بالفكر الرفيع، ويُقدّر الفنَّ الراقى، ويحترم العقلَ، هديةَ الله للإنسان.

اليوم أتَمَّ الأديب نجيب محفوظ عامه السابع عشر بعيدًا عن صخب العالم، بعدما انحنى له العالمُ احترامًا حين حصد لمصر وللعرب نوبل الآداب عام ١٩٨٨. سبعةُ عشر عامًا لم ينْسَه أحدٌ، ومازالت كتبه تتصدّر قوائم الأكثر مبيعًا بجميع لغات العالم، بينما نسينا منذ اللحظة الأولى أولئك الذين على عقولهم أقفالُها، ممن أهانوا اسمَه وإرثَه، وأفتوا بكفره ووجوب قتله.

ذات يوم من أيام القرن الثامن عشر، كان صديقان ألمانيان كهلان يتمشيان في حديقة من حدائق مدينة «فيمار» الألمانية. أحدهما اسمه «بيتهوفن»، والآخر اسمه «جوته». شاهد الصديقان موكبًا ملكيًّا قادمًا من بعيد صوب الحديقة. وكانت التقاليد الملكية تقضى بأن يتنحّى السابلةُ عن مواكب الملوك والأمراء، وينحنوا احترامًا أمام أصحاب السموّ الملكى، حتى يمرَّ موكبُهم. الأديبُ الكبير «جوته»، صاحب رواية «فاوست»، اتّبع البروتوكولَ وساير التقاليد الألمانية؛ فانتحى جانبَ الطريق، وهو يحنى رأسَه احترامًا للأمير، بينما لم يعبأ الموسيقارُ «بيتهوفن»، وضرب بالبروتوكول عرض الحائط. لم يتنحَّ عن الطريق ولم ينحنِ ولا خفض رأسَه للأمير؛ بل استمر في طريقه غير مبالٍ بالموكب ولا بمَن يحمله. ماذا فعل الأمير؟!. لم يغضب ولم يثُر ولم يأمر رجاله بجزّ عنق الرجل قبل أن يُكمل سيمفونياته التسع، بل ترجّل الأميرُ عن موكبه ووقف أمام «بيتهوفن»، ثم انحنى له قائلًا بصوت مسموع: (حقَّ علينا نحن أن نُحنى الرأَسَ لـ«بيتهوفن».) ليتنى أعرفُ اسم ذلك الأمير المثقف لأقدّم له التحايا لأنه عرف قدر وقيمة العظيمين «بيتهوفن» و«جوته»، اللذين تملأ أعمالهما الموسيقية والأدبية الكونَ شدوًا وفكرًا وبهجةً وأملًا وفرحًا وحياة.

في أحد لقاءاتنا بالخالد «نجيب محفوظ» عام ٢٠٠٣، وفى ڤيلا الدكتور الجميل «يحيى الرخاوى» بحى المقطم، مِلْتُ نحوه وهمستُ: «أستاذ نجيب، فاكر اسم طاعنك؟»، فابتسم بوهنٍ وحرك رأسَه دلالة النفى، ثم همس: «بس سامحته!»، هكذا العمالقةُ أمام الصغار. الكبارُ يغفرون للصغار طيشَهم وحماقاتِهم؛ لأنهم يدركون أن الصغارَ لا يعلمون ماذا يفعلون. يا عم نجيب النجيب، كل سنة وأنت أكثر وجودًا وحياة ممن أخفقوا في قراءتك وإدراك قيمتك. عِش ألفَ عام وعام.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نذكرُ العظماءَ وننسى قاتليهم نذكرُ العظماءَ وننسى قاتليهم



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon