بقلم - فاطمة ناعوت
بماذا تشعرُ المُتحرّشُ بها، والمُغتصَبةُ، والخاضعة للعنف الجسدى؟ لا أحدَ يعرفُ، سواها! خليطٌ مُرٌّ من المذلّة والانكسار والضِعة والعجز والخذلان وموات الغد. وبعد تلك التجربة المُرّة، تتفحّصُها العيونُ وتلوكُها الألسن وتُثرثرُ الشفاهُ حول: لماذا خرجت؟ وماذا كانت تلبس؟ فالحقُّ عليها دائمًا. الرجلُ معذورٌ، والمُدانةُ هي! لا تختلفُ المجتمعاتُ كثيرًا حول هذا النهج في التفكير، مهما أدانوا وشجبوا ورفعوا الشعاراتِ وأطلقوا المبادرات وجعجعتِ الحناجرُ وسُنَّتِ القوانينُ وغُلّظتِ العقوبات، يظلُّ المجتمعُ «يبحثُ عن ألف مبرر للرجل، ويُفتّشُ عن خطأ واحد للمرأة». وتُدركُ الصبايا والنساءُ هذا بحدسهن وفطرتهن، فيلجأن إلى «الخرس» وتجرّع المرارة في صمت الصاغرين. فلا تبوحُ الضحيةُ بما جرى لها، لا للشرطة ولا للمجتمع ولا حتى للأم والأب خوفًا من اللوم والتقريع والعنف الذي قد يصلُ إلى القتل! قتلُ الضحية لا قتلُ الجانى!.
مسلسل مهم شاهدتُه على منصّة «شاهد» يناقشُ تلك الظواهرَ المجتمعية الخطيرة التي تجعلُ الأنثى «طريدةً» في مرمى قناص قاسٍ بلا عقل، عفوًا، بل ذى عقل «داهية» يختارُ ضحاياه بدقّة، بحيث تمنعهن ظروفُهن من فضح جرائمه، فهذه زوجة لرجل متعصب متحجّر لن يتعاطف مع زوجته المُغتصبة، فتلجأ إلى الانتحار، وهذه فتاة مراهقة تخافُ الأبَ المتسلط الذي لن يرحم ابنتَه المغدورة تحرّشًا، وهذه طالبةٌ فقيرة يلملمُ والدُها المطحونُ القروشَ من أجل تعليمها، وهذه فتاةٌ جهول ضعيفة الشخصية لا تدرى عن حقوقها شيئًا، وغيرهن ممن يخضعن لمقاصل الخوف والجهل والفقر، عطفًا على المقصلة الكبرى وهى: «إدانة المجتمع الذكورى برجاله ونسائه!»، فيستسلمن للخنوع والصمت القسرى.
عنوان المسلسل موحٍ ومبدع: «60 دقيقة»، وهى مدّة جلسة العلاج التي يمنحها الطبيبُ النفسى المرموق الوسيم «أدهم نورالدين»، لمريضاته. مريضاتُه اللواتى يذهبن إليه ليعالجهن من مشاكل نفسية طارئة مثل الاكتئاب أو ضعف الثقة بالنفس، فيخرجن من عيادته محطّمات ذليلات بعدما يتحرش بهنّ الطبيب «السايكو» بوحشية الساديين. وحين يصرخن وجعًا، يهمس في آذانهن بأن «الحب والألم صُنوان»Love is Pain
ونكتشف مع نهاية الحلقات أن هذا الطبيب المريض كان ضحية لوالدته التي غرست فيه جنون العظمة، وعززت قسوته على الطير والحيوانات حين كان طفلا، وعلى الخادمات البائسات حين كان مراهقًا، وعلى المريضات حين صار طبيبًا شهيرًا. علّمته مبكرًا فن «إخفاء جرائمه»، حين دأبت على مداراة جرائمه الصغيرة طفلا، وأجهضت محاولات أبيه لعلاجه النفسى، فتعاظمت جرائمُه مع الأيام حين شبَّ وصار يتصيد ضحاياه من النساء الصامتات. وحين تكتشفُ زوجتُه فظاعاته وجرائمه، وتعجز عن دفع الضحايا للكلام، تقتله وتخضع للمحاكمة ثم الإعدام، رغم المرافعة القوية للمحامية الحقوقية التي تدعمها.
الجديد في هذا العمل الدرامى الجميل، على سوداويته، هو الطلب الأخير للزوجة القاتلة قبل تنفيذ الإعدام! طلبت الطلاق من زوجها المقتول! فهى ترفض اقتران اسمها بمتحرّش، حتى بعد موته وموتها. ترفضُ لقاءه بعد الموت لا في جنّة ولا في نار. فقد كان يقول لها، في لحظات الصفو، إن المرأة تحظى بلقاء زوجها في الحياة الأخرى بعد الموت، وهذا ما لم ترده الزوجة. الزوجةُ بطلبها الطلاق من زوجها الميت، كأنما تريد قتله مرة أخرى. فالإقصاءُ لونٌ من القتل. ولو لم تقتله هي، وقتله غيرُها، ولو ماتَ ميتةً طبيعية، لطلبت الطلب ذاته: الطلاق!.
تلك هي «لؤلؤة» المسلسل الجميل الذي كتبه المبدع والسيناريست «محمد هشام عُبيّة» وأخرجته على نحو شديد الاحترافية «مريم أحمدى». فكرة طازجة من خارج الصندوق، لم يُتطرق إليها من قبل. فالزواجُ هو أن يقبل اثنان هذا الرباط المقدس وفق شروط كثيرة أولُّها وأهمُّها: «الوعى بشخصية الآخر». فماذا لو اكتشف أحدهما أنه لم يكن واعيًا بشخصية مَن تزوج، وأنه خضع للخداع؟ يطلب الطلاق! فماذا لو جاء الاكتشافُ بعد موت الطرف المخادع؟! يسقط حقه في الطلاق، بسبب وفاة الطرف الآخر! وماذا لو اكتشفت زوجةٌ بعد وفاة زوجها أنه كان جاسوسًا خائنًا لوطنه؟! أليس من حقّها طلب الطلاق منه «ميتًا»، لكى تتبرأ من لقب: «أرمل الجاسوس»؟! هذه زوجةٌ قتلت زوجها المتحرش لكى توقفَ سلسالَ انتهاكاته لبنات الناس، واعترفت بجريمتها ولم تراوغ في التحقيقات، وخضعت للعقوبة بنفس راضية، وكان طلبُها الأوحد قبل إعدامها هو «فك قيد ارتباطها بمتحرش سادى».
رُفض طلبُها بالطبع لأن القانون لم يبتكر مادة تدعمه، لكن الفكرة تظلُّ صفعةً على وجوه المتحرشين الشوهاء. تحية لجميع من شاركوا في هذا العمل الدرامى المهم: الجميلات: «سوسن بدر»، «شيرين رضا»، «ياسمين رئيس»، الفنان السورى «محمود نصر»، الفنان «خالد كمال»، وكامل طاقم العمل الجميل. «ستون دقيقة» تمرُّ كما الدهر على المُغتصبَة، وتمرُّ خاطفةً على مَن تنتظرُ حتفَها.