توقيت القاهرة المحلي 10:22:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«النقطة العميا».. المسرحُ في تمامِه

  مصر اليوم -

«النقطة العميا» المسرحُ في تمامِه

بقلم - فاطمة ناعوت

الحسد، الطمع، الجبن، وغيرها من أدران النفس البشرية ومواطن ضعف الإنسان، جميعُها جرائمُ أدبيةٌ كبرى مُجرّمةٌ فى محكمة الأخلاق، لكنها تفرُّ من محكمة القانون، فلا يُعاقَبُ عليها، رغم أنها السُّبُلُ والتوطئة للجرائم الجنائية مثل: القتل والسرقة والانتهاك وخيانة الأمانة. لم يبتكر الإنسانُ بعد محكمةً تعاقبُ على الجرائم التى تُرتكب داخل خبيئة أنفسنا دون أن يراها سوانا. على أن «قانون الكرما» فى أدبيات الشرق الأقصى يقول إن أفعالنا، وحتى «أفكارنا»، تتحول إلى ثمار تنضج مع الأيام، ثم تسقط فوق رؤوسنا على هيئة عواقبَ وتداعياتٍ حتمية لجميع ما صنعنا، فإن كانت أرواحُنا صافيةً كانت ثمارنا حلوة شهية، وإن سمحنا لأرواحنا أن تحسد أو تطمع أو تكره، انهالت فوق رؤوسنا الثمار العطنة المسمومة.


الكاتب السويسرى الشهير «فريدريك دورينمات» كان مشغولًا بفكرة فرار مجرمى الأخلاق من العقاب لأن جرائمهم لا دليل مادىّ عليها، إذ تُرتكَبُ داخل النفس البشرية بعيدًا عن عيون الناس. لكن ثمّة قاضيًا عدلًا يراها هو «الضمير»، الذى يظلُّ يعذّبُ الجانى حتى يتطهّر من خطاياه ويصفو، كما فى «النفس اللوّامة» التى أقسم بها اللهُ فى القرآن الكريم. ولكن، ماذا لو تغافل «الضميرُ» عن أداء مهامه فى تطبيق العدالة على جرائمنا الخفية؟!، ألَا يستحق مجرمو الخطايا الروحية أن يخضعوا للمحاكمة والعقاب؟، ذاك هو جوهر قصة «العُطل» التى كتبها «دورينمات» بالألمانية عام ١٩٥٦، ونقلها للعربية المترجمُ الكبير «سمير جريس» على نحو بالغ الجمال، وتُعرضُ الآن على خشبة «مسرح الغد» تحت عنوان «النقطة العميا»، من إخراج «أحمد فؤاد».

عرضٌ فائقُ الجمال إخراجًا وتمثيلًا واكتمالًا. ثلاثةٌ من رجال القانون المتقاعدين، منهم قاضٍ، وممثل ادعاء، ومحامٍ، عزفوا عن ساحات القضاء، بعد إيمانهم بأنهم غير قادرين على تحقيق «العدالة» بمواد «القانون» المعروفة حين تغيبُ الأدلةُ، وتختفى داخل نفوس الخطاة. انتبذوا العالمَ وسكنوا فيلا فى مكان ناءٍ، وراحوا يطبقون العدالة على طريقتهم بأن يُخضعوا مشاهير العالم، الأشرار والطيبين، لمحاكمات جديدة وفق قانون «الأخلاق»، ليروا إن كانوا مذنبين أم أبرياء. أعادوا محاكمة «هتلر»، «جان دارك»، «غاندى» وغيرهم من شرفاء العالم وطُغاته. وحينما «يقع» عابرُ سبيل بين أيديهم لسبب أو لآخر، يسارعون بمحاكمته كذلك، مثلما وقع موظفٌ حديثُ الثراء تعطّلت سيارته فى الجوار لقضاء الليلة فى فيلا الثلاثى القانونى، فواجهوه بقرائنَ تَشِى بجرائمَ أخلاقية ارتكبها فى غفلة من ضميره، وشيئًا فشيئًا جعلوه يعترف بما حوّل القرائنَ إلى أدلة، جعلت ضميره الغافل يصحو على واقعه الأليم بأنه «مذنبٌ» يستحقُّ القِصاص فى محكمة الأخلاق، وإن برّأه القانون الجنائى الذى لا يُحاسب على خطايا خفية جسيمة مثل: الحسد، الطمع، الأنانية، الاستعلاء، البغض، وغيرها من أدران النفس البشرية.

كأنها «مرآة ميدوزا»، التى نصافحُ على صفحتها دمامتَنا وسوءَ طويتنا، فإما نتطهر منها ونصفو، أو ننتظر عقابَ الزمان.

«أحمد عثمان»، «أحمد السلكاوى»، «حسام فيّاض» هم عباقرة المسرح الذين شكّلوا هيئة القضاء فى هذا العرض المدهش. «نور محمود» أدى ببراعة دور المتهم الذى خضع للمحاكمة حتى وصل إلى أنشوطة الإعدام. أما «عشماوى» الذى يُنفّذ العقوبة فكان الجميلة «هايدى بركات»، التى صنعت الخلطة السحرية بين الأنوثة والقسوة لأداء مهامها العقابية. وخارج ساحة المحاكمة يقف «عمر صلاح الدين»، الذى أدى دور الميكانيكى الذى يدفع بالضحايا لولوج فيلا المحاكمة. يقفُ وراء أولئك النجوم وهذا العرض الفاتن موسيقيون ومهندسو إضاءة وديكور وملابس وسينوغرافيا صنعوا هذه السيمفونية المسرحية الساحرة هم على الترتيب: «محمود أبوزيد»، «أبوبكر الشريف»، «أحمد أمين»، «نور سمير»، وبالتأكيد مخرجٌ مثقف هو «أحمد فؤاد» وفريقه: «نور محيى فهمى»، «دعاء حسين»، وتنفيذ «داليا حافظ».

هذا هو المسرحُ فى أوجِ اكتماله وسحره؛ حينما تكتملُ جميعُ أركانه ليقدّم لنا معزوفةً مسرحيةً متناغمة؛ لا يشوبُها نقصانٌ أو عِوج. الإخراج والحبكة الدرامية والديكور والملابس والإضاءة، وقبل هذا وبعده، الأداءُ المدهش والمتناغم لجميع الفنانين، لتكتمل السيمفونية المسرحية كما يليق بها أن تكون. خرجتُ من العرض المسرحى وأنا أشعرُ بالامتلاء والشبع كأنما قرأتُ عشرة كتب واستمعتُ إلى خمس سيمفونيات وشهدتُ خمسين لوحةً تشكيلية وقطعة نحتية. شكرًا لمسرح «الغد» العريق، وشكرًا لمديره المخرج الفنان «سامح مجاهد» الذى حكى لى، على فنجان قهوة فى مكتبه، عن نجوم العرض والتزامهم المهنى المحترم، عطفًا على مواهبهم المسرحية. حكى لى عن بطل العرض «نور محمود»، وهذا عمله المسرحى الأول بعيدًا عن كاميرات الدراما التليفزيونية والسينما، ومدى التزامه بالحضور المبكر للمسرح رغم انشغاله بالتصوير نهارًا فى أعمال أخرى. أرجو أن يُعرض هذا العمل الجميل على المنصات، وأن يجوب جميع مسارح مصر، وأن يُمثّلنا فى المهرجانات الدولية، وشكرًا للفن الرفيع الذى يصنعُ ضمير المجتمع.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«النقطة العميا» المسرحُ في تمامِه «النقطة العميا» المسرحُ في تمامِه



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon