توقيت القاهرة المحلي 10:38:31 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عم نجيب.. العصىُّ على النسيان

  مصر اليوم -

عم نجيب العصىُّ على النسيان

بقلم - فاطمة ناعوت

حين شاهدتُه لأول مرة، كنتُ حول العاشرة من عمرى. كان ذلك فى كازينو «قصر النيل»، الذى اعتادت أمى أن تصحبَنا إليه، أخى وأنا، لكى تكافئنا بكأسين من الجلاس والكاساتا، كلّما حصدنا درجاتٍ عليا فى المدارس.

أومأتْ أمى صوبَ إحدى الطاولات وقالت: (اللى قاعد هناك ده «نجيب محفوظ»، الكاتب الكبير). شببتُ على أطراف أصابعى لأميّزه بين مجالسيه، الذين أطلق عليهم لقب: «الحرافيش»، ورحتُ أُحدّق فى الكاتب الكبير، فالتقطتْ عيناى تلك «الزبيبة» الكبيرة على يسار أنفه. وبدأ عقلى «الطفل» يحاولُ الربطَ بين «الزبيبة الكبيرة» و«الكاتب الكبير».

هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل هذه الزبيبة الكبيرة؟.. بمجرد عودتى إلى البيت، ركضتُ إلى مرآة غرفتى ورحتُ أفتّشُ فى وجهى عن براعم علامة الإبداع؛ وأحزننى أنْ ليس من زبيبة كبيرة ولا صغيرة فى وجهى!. بعد ذلك بسنوات، قرأتُ «الثلاثية» وأحببتُها، لكن شيئًا ما كان يؤرقنى بها، لم أستطع تحديده إلا بعد نضوجى. وبعد بضع سنوات سأكون قد قرأتُ جميعَ ما كتب من فرائد أدبية، وأصبحت فردًا من دراويشه.

سطّر «نجيب محفوظ» تاريخَ مصر كما لم تكتبه كتبُ التاريخ الانتقائيةُ والمؤرخون. لم نعرف طبيعةَ العصر التى عاشته مصر بعد ثورة ١٩ وقبل ثورة يوليو ٥٢ إلا من روايات العم نجيب. مع سنوات شبابى ونضالى الطلابى فى كلية الهندسة، أدركتُ ما كان يؤرقنى فى الثلاثية. ربما لأننى لم أرَ «نموذج المرأة» الذى كنتُ أحلمُ أن أراه، والذى كان موجودًا بالفعل، وإن غاب عن رواياته. «المرأة المثقفة الفاضلة باختيارها» وليس لكونها سجينة فى عباءة الرجل وقبضة يده الغاشمة مثل «أمينة». المرأةُ المصرية العظيمة لكونها «مصرية».

نساءُ عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، اللواتى كان بينهنّ «طيارة»، و«فيلسوفة»، و«محامية»، و«أستاذة جامعية»، و«مناضلة حقوقية». لم يرُق لى اختصار النساء فى: «زبيدة» الساقطة، و«أمينة» الفاضلة رغم أنفها. فهذه جدتى «فاطمة هانم سليمان» اختارت الفضيلةَ دون سجن. كانت تقرأ الأدب والشعر والفلسفة وتعزف البيانو وتحفظ القرآن وتقيم الصلوات، وكانت صاحبة عِصمة، لها زوجٌ يحبها ولا يقمعُها.

أحزننى أن لم أجد جدتى بين سطوره إلا قليلا!.. لكننى أحببته رغم ذلك. وسوف أضع كلَّ حبى له فى آخر قُبلة قبّلتها لرأسه فى آخر لقاء جمعنى به فى أبريل ٢٠٠٦ قبل طيرانه للسماء بشهور قليلة. قبّلتُه كأنما أعتذرُ له عن موقفى من موقفه من المرأة. وكتبتُ فى جريدة «القاهرة» قصيدة عنوانها «الطريق» أهديتُها له، وقرأها عمُّ نجيب فى فيلا د. يحيى الرخاوى، وحيّانى عليها.

أحببتُ عمّ نجيب؛ لأنه يضعنى رأسًا أمام المثال الذى أحبُّ أن أعود إليه كلما اصطدمتُ بمتواكل لا يحترمُ قيمة العمل والوقت. فهو النموذج الأجلى لفراعين مصر العظام، حيث دقّة العمل واحترام الوقت وتنظيم الحياة، إضافة إلى الإبداع الملهم. هو مصرُ بتركيبتها الحضارية والثقافية الثرية.

تأملوا معنى أن يقضى رجلٌ ما يزيد على تسعين عامًا من عمره يعمل دون توقف!، لا سيما إذا كان عمله هو «الإبداع»، الذى اشتُهر بأن أصحابه لابد أن يكونوا بوهيميين فوضويين يعيشون خارج الزمن، دون نظام، ينتظرون الإلهام، و«يفوضوون» حياتهم بحجة الفن والانطلاق من الأرض والثوابت!. كان العم نجيب يجلس إلى مكتبه كل يوم من السادسة إلى التاسعة صباحًا، حتى يبرمج عقلَه على استجلاب المادة الكتابية فى تلك الساعات تحديدًا.

حيلةٌ تعلمها من نظرية «الارتباط الشَّرطى» لدى الروسى «إيڤان بافلوف». ونجح بالفعل فى أن «ينظّم» ما لا انتظام فيه، وأن يبرمجَ مَلَكةً هى فى الأساس عصيّةٌ على البرمجة ونقيضٌ للتنظيم.. حتى بعدما يدٌ جاهلةٌ طعنته فى عنقه فى أوائل التسعينيات، ظلَّ يحلُم ويكتب ولم تقعده العاهةُ عن الإبداع. فليس من عاهةٍ تعوقُ الحُلم. طعنه شاب جاهل مُسطّح لأنهم «قالوا له» إن صاحب «أولاد حارتنا» كافرٌ ملحد! ظلَّ يكتبُ والخنجرُ مغروسٌ فى عنقه وفى قلوبنا.

يوم ١١ ديسمبر، كان عيد ميلاد الرجل الذى وضع «نوبل للآداب» فى كأس مصر والعالم العربى لأول مرة فى التاريخ. ولم يذهب لتسلم الجائزة لأنه يرفضُ السفرَ خارج مصر. أوفد لتسلم الجائزة من ملك السويد ابنتيه «فاطمة» و«أم كلثوم»، واختار مَن يمثّله للقاء الملك وإلقاء كلمته مُبدعًا مثقفًا من جيل الشباب وصورةً مُشرّفة لمصر، وهو اليوم أحدُ كبار مفكرى مصر ومبدعيها: الروائى والمفكر «محمد سلماوى».

عظيمة هى مصر، عظيمة بحضارتها وحداثتها ومبدعيها، رغم كل ما مرَّ بها من محن وأعاصير، ورغم مطامع الطامعين فيها على مرّ التاريخ.. لكنها اليومَ تتنفسُ من جديد، وتضبطُ ثوبَ العافية حول جسدها الطاهر.

عيد ميلاد سعيد يا «عم نجيب».. وكل عام وأنت طيبٌ عصيٌّ على النسيان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عم نجيب العصىُّ على النسيان عم نجيب العصىُّ على النسيان



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر
  مصر اليوم - إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024
  مصر اليوم - الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 08:48 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها
  مصر اليوم - دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء
  مصر اليوم - نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن بداياته الفنية
  مصر اليوم - خالد النبوي يكشف أسراراً جديدة عن بداياته الفنية

GMT 23:09 2019 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

بورصة دبي تغلق دون تغيير يذكر عند مستوى 2640 نقطة

GMT 21:08 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

باريس سان جيرمان يستهدف صفقة من يوفنتوس

GMT 14:28 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير المصري تدعم إستمرار ميمي عبد الرازق كمدير فني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon