بقلم - فاطمة ناعوت
شابٌّ محترم قرّر مكافأة جارتِه السيدة الطيبة التى قامت على تربيته ورعايته بعد رحيل والدته، فحجز لها «رحلةَ عُمرة» وأوصلها إلى المطار بنفسه، ثم عاد واستقبلها فى المطار بعد عودتها بسلامة الله من الأراضى المقدسة. ماذا نقولُ فى هذا التصرف الرقيق؟ نقول إنه شابٌّ مباركٌ ابنُ أصول حافظٌ للجميل، وسوف يجازيه اللهُ خيرًا على تصرفه النبيل.. لكنه خبرٌ عادى يتكرر كثيرًا فى مجتمعنا الطيب. حسنًا، ماذا لو أضفنا معلومةً صغيرةً إلى الخبر السابق: «هذا الشابُّ مسيحى». هنا سوف نتوقفُ، ثم نُنصتُ إلى صمتنا، وقد أخذتنا الدهشة! السؤالُ هنا: هل علينا الدهشةُ حقًّا؟! هل نندهشُ لأن سيدةً مسلمة قامت برعاية طفلٍ مسيحى رحلتْ عنه أمُّه، ثم نندهشُ لأن الطفل بعدما كبُرَ قدَّم لأمّه الثانية رحلةَ عمرة إلى بيت الله الحرام؟.. الدهشةُ تعنى أن بداخلنا شيئًا ليس على ما يُرام. لأن اندهاشَك من سلوك ما يعنى أنه «نادرُ الحدوث»، أو أنك ما كنت لتفعله لو تيسر لك.
نحن أمام سيدةٍ طيبة، نقية العقل، نظيفة القلب، قامت بما يجب أن تقوم به أمٌّ صالحة.. وشاب طيب، نقى العقل، نظيف القلب، قام بما يجب أن يقوم به ابنٌ صالح. الأمرُ طبيعيٌّ، والدهشةُ لا محلّ لها من الإعراب. هكذا يجبُ أن يكون جميعُ الناس فى مجتمع نظيفٍ خالٍ من المراهقات العنصرية والأدران الطائفية.
الشخصُ المؤمن بحق يؤمنُ بعقيدته ولا ينزعجُ من إيمان الآخرين بعقائدهم المختلفة عن عقيدته. أذكرُ أننى كلما سافرتُ إلى لبنان كنتُ أشترى هديةً لأمى الروحية الفاضلة: «آنجيل غطاس»، الموجّهة بالتعليم. الهدية هى تمثالٌ صغير للسيدة العذراء أشتريه من كنيسة سيدة لبنان «الأم حريصا»، وهو المزار المريمىّ الأكبر فى الشرق الأوسط، يحجُّ إليه السياحُ من جميع أنحاء العالم على اختلاف عقائدهم للتبرّك بالأم البتول المقدسة سيدة نساء العالمين.. وكذلك أذكر أن أكبرَ مصحف فى بيتى أهدته لى والدة «دميانة»، الشهيدة المسيحية التى اغتالت طفولتها يدُ الإرهاب السوداء فى تفجير الكنيسة البطرسية فى ١١ ديسمبر ٢٠١٦.. هل تصدقون هذا؟ فى أربعين الصبية الشهيدة اتّصل بى عمُّها ليُخبرنى بأن الشهيدة الجميلة تودُّ أن تُهدينى هديةً قيّمةً فى أربعينها، وتدعونى أن أحضرَ ذكرى الأربعين، مثلما حضرتُ جنازها ووقفتُ أمام نعشِها الأبيض الذى استقبله أهلُها وأقرباؤها وأصدقاؤها بالزغاريد والورود البيضاء والشموع. وحين قدّمت لى أمُّ الشهيدة «دميانة» مصحفًا ضخمًا أنيقًا مع صورة ابنتها، جرى الدمعُ من عينى، وارتبك الكلامُ فوق لسانى، وعرفتُ أن حبى لأقباط مصر المسيحيين لم يكن من فراغ.. فكيف لك ألا تحب بشرًا يعالجون القسوةَ بالرحمة، ويداوون الإرهاب بالمحبة والمغفرة؟!.
يومها، أحببتُ أن أختبر فِطنةَ قرائى وحُسن حدسهم قبل أن أخبرهم بالهدية الثمينة التى أهدتنى إياها الشهيدة «دميانة» يوم أربعينها، فكتبتُ على صفحتى أن يخمّن القراءُ ما تلك الهدية!.. وهالنى إبداعُ القراء. كثيرون قد أحسنوا التخمين وعرفوا الهدية، وكثيرون اقترحوا هدايا أخرى جميلة: كراسة من كراسات دميانة فى المدرسة، أو خصلة من جديلتها، أو مزقة من الثوب الذى صعدت روحُها الطيبة فيه إلى السماء، أو الكتاب المقدس مع القرآن الكريم، أو لعبة من لعب دميانة الطفلة الجميلة التى صدّعتها شظايا الغدر وهى لم تُكمل عامَها الرابع عشر، أو صورة لى مع دميانة لم تُلتقَط أبدًا. وبعد وصول التخمينات إلى ألف تخمين جميل، نشرتُ صورة الهدية: مصحفٌ فخمٌ مُذهَّبٌ هائلُ الحجم، مع كلمة قلتُ فيها: لعلّ قرائى يعرفون اليومَ لماذا أحبُّ أشقائى المسيحيين حبًّا جمًّا، وأعتزُّ بهم وأفرح بوجودى معهم على أرض مصر، ووجودهم معنا. لعلّ الجميع يعرفون لماذا أُثمّن إثراءهم مصرَ بفيض غزير من الحب والغفران والتسامح ومقابلة البغضاء بالحب، والعداء بالسلام، والرصاص بالغفران ثم بالمباركة والصلاة من أجل المسىء. لعلّ الجميعَ يعرفون اليومَ لماذا أعايدهم فِى أفراحهم، وسأظل أُعايدهم فى بيوتهم وفِى كنائسهم من أجل فرحى أنا، لا من أجل فرحهم وحسب.. ذاك أن فرحهم لن يزيد بوجودى أو ينقص بغيابى. أواسيهم فى مآسيهم وسأظل أواسيهم فى بيوتهم وفِى كنائسهم من أجل راحة قلبى أنا، لا من أجل راحتهم. ذاك أن راحتَهم لن تزيد بوجودى ولن تنقص بغيابى. سأظل أشهد لهم بالفضل علىَّ فى تعليمى طفلةً صغيرة فى مدارسهم وعلى يد مُعلّميهم المتحضرين. وأشهد لهم بالفضل علىَّ فِى تطبيبى واهنةً عليلةً فى مشافيهم على يد أطبائهم الأمناء وممرضاتهم الراهبات ملائكة النور والبياض.
«الدينُ لله والوطنُ لأنقياء الوطن».