بقلم - فاطمة ناعوت
تخيَّلْ أن يرن هاتفُك فى الصباح، وحين تُجيب يأتيك صوتٌ ساحر يحملُ من السموّ بقدر ما يحمل من الرقّة، قائلًا: «إى!، صباح الخير. أنا الملكة (نفرتيتى) تتحدثُ إليك»، وبعد حديث ودّى قصير تحكى فيه عن حياتها الملكية الرفيعة فى حياة زوجها الملك «إخناتون» فى القرن ١٤ ق. م.، ثم فى عهد الملك «توت»، تهمسُ لك بنبرة ملكية معاتبة عن رأسها العظيم الذى يُزيّنُ قاعةً شاسعة فى متحف برلين، وهل سيُقدّر لمصر أن تستعيده يومًا ليُزين متحفَنا الكبير؟. تخيّل أن يرن هاتفُك ويأتيك صوتُ «أودلف هتلر»، وقبل أن تغلق الخط فى وجهه، يقول لك بصوتٍ كسير: «العَنِّى كما شئتَ، لكن دعنى أقصّ عليك طفولتى مع أمى وأبى، وتاريخ اليهود لعلّك تقفُ على ما دفعنى لأحرق ٥٠ مليون إنسان». تخيّل أن يتحدثَ إليك «بيرم التونسى» و«حسين بيكار» و«فولتير» و«داروين» و«أينشتاين»!. تخيل أن تستيقظَ من نومك على صوت «عينك»، أو «قلبك» أو «جهازك المناعى» يتحدثون إليك عن أسرارهم وهمومهم وأحلامهم!. تخيّل أن تسمع أخيرًا صوت «خليّتك العصبية»، التى ظننتَ طوال الوقت أنها لا تتكلم!. تخيل أن يتحدّث إليك «دستور بلدك عام ١٩٢٣» ليخبرَك عن أحلام المصريين آنذاك!، بل تخيّل أن تتحدثَ إليك «مصرُ» ذاتُها لتقصَّ عليك ماضيها الثرىّ ومستقبلها المشرق الذى يليقُ باسمها العظيم!.
نحن فى حضرة كتابٍ عظيم جديد من سلسال كتبٍ عظيمة أهداها إلى المكتبة العربية والعالمية رجلٌ عظيم، طبيبٌ ومفكّر وعالمٌ مصرىٌّ جليل. نحنُ فى حضرة قلم البروفيسور د. «وسيم السيسى»، وكتابه الجديد «أنا أتحدّثُ إليكم»، وقد تقمّص ٥٢ صوتًا من الشخصيات التاريخية، والقيم، والمدوّنات والأفكار، والأعضاء الجسدية والأمراض. هذا الكتاب القيّم، الصادر عن «الدار المصرية اللبنانية» من المُجحفِ الكلامُ عنه فى مقالات نقدية أو دراسات، هذا الكتاب وُجدَ لكى يُقرأ كثيرًا، وتُستقطَرُ عذوبتُه قطرةً قطرة، فلا تنفدُ عذوبتُه، ولا أنت تشبع. ذاك أن كتابة «وسيم السيسى» تشبه حجرًا كريمًا اسمه ألكسندريت Alexandrite، وهو أغلى من الألماس، ليس فقط لأنه يفتح شكرات الطاقة فى جسد مَن يرتديه، بل الأهم لأنه يُشعُّ ألوانًا مختلفة وفق كمية الضوء وزوايا السقوط، فتراه فى الصباح أخضرَ، وعند الضحى أزرقَ، ثم أحمرَ عند الظهيرة، وأصفرَ عند العصر، وفى الغسق ورديًّا، وفى المساء قرمزيًّا، ثم رماديًّا فى جنح الليل. هكذا كتاباتُ د. «وسيم السيسى» وأحاديثه؛ مُشعّة تتعدّدُ ألوانُ بريقها مع كل لحظة من لحظات حياتك. ولهذا نخبّئ كتبَه فى مكان قريب حتى نُعيد قراءتها كل حين، ولكننا نُخفيها عن الغرباء فى مكان سرىّ من مكتباتنا؛ لأنها هدفٌ مُغرٍ للاختلاس. رغم إيمانى بأن اختلاس الكتب القيمة مشروعٌ وحلالٌ ولا إثم فيه، فالجمال الفكرى منذورٌ لكى ينهل الناسُ منه، وألا يحتكره عقلٌ دون عقل.
الدكتور «وسيم السيسى» سُرَّ مَن رآه حقًّا، فهو رجلٌ جميل حلوُ الحديث رقيقُ الطباع ذو معارف واسعة قلّما تجتمعُ فى إنسان. رجلٌ يأتى مثلُه مرةً كلَّ ألف عام، فتتيه به فخرًا أرضُ ميلاده. ما إن يُذكَر اسمُه حتى تُرفع القبّعاتُ وتنحنى الهاماتُ احترامًا. طبيبٌ إن أمسكَ بالمِشرط ليجرح جسدًا، عالجَ سَقَمًا؛ ونهضَ السقيمُ صحيحَ البدن. وإن أمسك قلمًا ليجترحَ فكرةً، عالج جهلًا؛ وانتفض المرءُ فاهمًا واعيًا صحيحَ الروح والعقل. أستاذى «وسيم السيسى»، الطبيبُ الجرّاح والمفكّر وعالم المصريات والوطنىّ النبيل.
واحدٌ من أجمل كتبه التى أعشقُها عنوانه: «مصرُ التى لا تعرفونها». وحين أتحدثُ أنا لأصدقائى عن ذاك الكتاب، أقول: «مصرُ التى لا نعرفُها». اختلاف الضمائر بين الجملتين يعود إلى أنه يعرفُ عن تاريخ مصرَ العظيم أكثر كثيرًا مما نعرف. ليس فقط بوصفه باحثًا كبيرًا فى علم المصريات، ولا لأنه أستاذٌ فى الطب، حاصلٌ على زمالات بريطانية وأمريكية، وله براءات اختراع فى تخصصه، وعمليات جراحية تحمل اسمه، وتوسّل معارفَه الطبية تلك فى السعى وراء أسرار أجدادنا ليعرف عبقريتهم الطبية؛ فوضع كتابًا يُزيّن مكتبة الكونجرس الأمريكى عنوانه Medicine in Ancient Egypt، «الطب فى مصر القديمة»، وليس أيضًا لكونه مثقفًا موسوعيًّا رفيع الطراز، له باعٌ عريض فى الآداب والشعر والفلسفة والفنون والتاريخ، فضلًا عن تخصصه الطبى وبحثه الدؤوب فى علم المصريات Egyptology، بل لأنه «عاشق».
الدكتور «وسيم السيسى» عاشقٌ مُتيّمٌ شَغِفٌ صَبٌّ مُغرَمٌ وَلِعٌ، عليلٌ بالهوى، إن كان الحبُّ علّةً. مفتونٌ بحسناءَ ساحرةٍ، فتنتْ من قبله عظماءَ وزعماءَ وفلاسفةً وعلماءَ فطافوا حول هودجِها وأهرقوا عند قدميها أعمارَهم. لكن هؤلاء وأولئك لم يكونوا منها، بل غرباءُ جاءوها طامعين فى مجدها وعلمها وتراثها الأخلد؛ لكن عاشقنا أحبَّها لأنه منها. هو بعضُها، وهى كلُّه. معشوقته اسمُها «مصر». دمتَ لنا كنزًا معرفيًّا أستاذى الجميل.